الدرس التاسع 
قال تعالى:{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }( الأنفال:1: 4)
المعنى الإجمالي:
1-أُخرج النبى من مكة مهاجراً بسبب مكر المشركين وتدبيرهم أمر قتله ، وليكون للمسلمين دولة ، واستقر بالمدينة حيث النصرة ، وكان لا بد من الجهاد لدفع الاعتداء ، لكيلا يُفتَنَ أهل الإيمان ، فكانت غزوة بدر الكبرى، وكان فيها النصر المبين والغنائم ، وكان وراء الغنائم بعض الاختلاف والتساؤل فى توزيعها . يسألونك عن الغنائم : ما مآلها؟ ولمن تكون؟ وكيف تقسم؟ فقل لهم – أيها النبى – : إنها لله والرسول ابتداء ، والرسول بأمر ربه يتولى تقسيمها ، فاتركوا الاختلاف بشأنها ، واجعلوا خوف الله وطاعته شعاركم ، وأصْلحوا ما بينكم ، فاجعلوا الصِّلاتِ بينكم محبة وعدلا ، فإن هذه صفة أهل الإيمان .
2- إن المؤمنين حقاً وصدقاً يستشعرون دائماً خوف الله وطاعته ، فإذا ذُكر سبحانه فزعت قلوبهم ، وامتلأت هيبة، ولذا كلما قرئت عليهم آيات من القرآن ازداد إيمانهم رسوخاً ، وازدادوا إذعاناً وعلماً ، ولا يعتمدون إلا على الله الذى خلقهم ويحميهم وينميهم .
3- وأولئك المؤمنون الصادقون في الإيمان، يؤدون الصلاة مستوفية الأركان، كاملة الخشوع والخضوع ، ليكونوا على تذكر الله دائماً ، وينفقون مقادير من المال الذى رزقهم الله – سبحانه وتعالى – في الجهاد والبر ومعاونة الضعفاء .
4- إن هؤلاء المتصفين بتلك الصفات ، هم الذين يوصفون بالإيمان حقاً وصدقاً، ولهم جزاؤهم درجات عالية عند الله، وهو الذى يمنحهم رضاه ، ويغفر لهم هفواتهم ويرزقهم رزقاً طيباً فى الدنيا ، ونعيماً دائماً فى الآخرة .( )
سبب النزول:
عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: “من أتى مكان كذا وكذا، فله كذا وكذا، أو فعل كذا وكذا، فله كذا وكذا”، فتسارع إليه الشبان، وبقي الشيوخ عند الرايات، فلما فتح الله عليهم جاءوا يطلبون ما جعل لهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم الأشياخ: لا تذهبوا به دوننا! فأنزل الله عليه الآية “فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم” وأخرج أحمد وابن جرير والبيهقي في سننه عَن أبي أُمَامَة قَالَ: سَأَلت عبَادَة بن الصَّامِت عَن الْأَنْفَال فَقَالَ: فِينَا أَصْحَاب بدر نزلت حِين اخْتَلَفْنَا فِي النَّفْل فَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقنَا فانتزعه الله من أَيْدِينَا وَجعله إِلَى رَسُول الله فَقَسمهُ رَسُول الله بَين الْمُسلمين عَن بَرَاءَة يَقُول: عَن سَوَاء ( )
من لطائف التفسير:
اللطيفة الأولى : ذكرُ اسم الجلالة في الأمرين{ اتقوا الله } و { وَأَطِيعُواْ الله } لتربية المهابة والروعة في قلوب المؤمنين ، وذكرُ اسم الرسول مع الله تعالى أولاً وأخيراً لتعظيم شأنه، وإظهار شرفه، وللإيذان بأن في طاعة الرسول طاعة الله تعالى كما قال عزّ شأنه:{ مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله }( النساء : 80 ) .
اللطيفة الثانية : توسيطُ الأمر بإصلاح ذات البين { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } بين الأمر بالتقوى، والأمر بالطاعة، لإظهار كمال العناية بشأن الإصلاح.
اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } الشرط متعلق بالأوامر الثلاثة، والجواب محذوف دلّ عليه ما قبله، والمعنى: إن كنتم مؤمنين فاتقوا الله، وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله، وليس الغرض التشكيك في إيمانهم، وإنما هو للإلهاب وتحريك الهمة. قال الزمخشري :« جعل التقوى ، وإصلاح ذات البين ، وإطاعة الله ورسوله ، من لوازم الإيمان وموجباته ، ليعلمهم أن كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها »( ).
ثمرات إصلاح ذات البين:
1- درجة إصلاح ذات البين أفضل من درجة نافلة الصيام والصلاة والصدقة: 
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ قَالُوا بَلَى قَالَ صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ )( ) وهذا يبين مدى حرص الإسلام على أمن واستقرار المجتمع.
2- إصلاح ذات البين يثمر المغفرة للمتخاصمين عند المصالحة: 
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: 
تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا)( )
1- من أبواب الصدقات .. إصلاح ذات البين: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ ) ( ) 
2- للحفاظ على المجتمعات والأمم يجب الإصلاح بين الطوائف المختلفة:
عن أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ – رضي الله عنه- قَالَ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ قَالَ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ وَرَكِبَ حِمَارًا وَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ وَهِيَ أَرْضٌ سَبَخَةٌ فَلَمَّا أَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِلَيْكَ عَنِّي فَوَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِي نَتْنُ حِمَارِكَ قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ قَالَ فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ قَالَ فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ قَالَ فَكَانَ بَيْنَهُمْ ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَبِالْأَيْدِي وَبِالنِّعَالِ قَالَ فَبَلَغَنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمْ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا }( الحجرات:9)( )
من هداية الآيات:
أولاً – حرص الصحابة على السؤال عما يهمهم من أمور الدين. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:(مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ )( )
ثانياً – الأحكام كلها مرجعها إلى الله تعالى وإلى رسوله الكريم:{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }( الحشر: 7). وعلى المسلمين العمل بكتاب الله وسنة رسوله.
ثالثاً – اهتمام الشارع الحكيم بإصلاح ذات البين حفظاً لوحدة المسلمين، وبه تحل المودة، وتستقيم الحياة، ويتجه نحو العمل المثمر.
رابعًا: وفي نفس السورة تحذير من الفرقة في قوله تعالى:{ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}( الأنفال: 64 )
خامسًا- الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها المؤمنون الصادقون ليصلوا إلى حقيقة الإيمان.
وفي هاتين الآيتين الكريمتين خمسُ صفاتٍ لها ترتيب عقائدي وحركي وجوارحي, وبذلك يتحدد تشخيص كلمة «المؤمنين» هذه الصفات هي:
الأولى: أنه إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وثانية الصفات أنه: إذا تليت عليهم آيات الله زادتهم إيماناً، وثالثة الصفات: أنهم على ربهم يتوكلون، ورابعة الصفات: أنهم يقيمون الصلاة، وخامسة الصفات: أنهم ينفقون مما رزقهم الله.( )
سادسًا- امتثال أوامر الله وطاعته في ما أمر ونهى سبب لسعادة الإنسان في الدارين .
سابعًا- الإِيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، ومن المؤمنين من هو كامل الإِيمان ، ومنهم من هو ناقصه.