جماعة الإخوان الضباط

في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي غدت جماعة الإخوان المسلمين أكثر تنظيمًا وانتشارًا في القرى والنجوع والمدن، وراجت في أوساط المثقفين والأميين والحرفيين، وضمت الأطباء والمهندسين ورجال القانون والمعلمين، وكانت دروس الثلاثاء التي يلقيها الإمام حسن البنا في دار المركز العام هي الملتقي الأسبوعي لراغبي الانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين.

وكان من الطبيعي أيضًا أن تستقطب حركة الإخوان فريقًا من جنود الجيش والشرطة، وكان ارتباطهم بالجماعة في الخفاء؛ لأن نظام الجيش لا يسمح بانتماء أفراده لهيئة أو حزب، لذا كان انتماؤهم للنظام الخاص للإخوان المسلمين أمرًا حتمته ظروف الاستعمار وطبيعة العمل.

وقد بدأ ظهور حركة الإخوان في الجيش عام 1938م لعدة أسباب، منها: (1)

 

أولاً: تدهور الوضع السياسي والاقتصادي للجيش المصري نتيجة الاحتلال البريطاني وأعوانه من المنتفعين، واقتناع بعض أفراد الجيش بقوة جماعة الإخوان المسلمين، وجدوى اللجوء إلى الروح الإسلامية وإعادة إحيائها، وكان ذلك سبب انضمام عبد المنعم عبد الرؤوف لجماعة الإخوان
حين قال للإمام حسن البنا:
"لو أن الروح الإخوانية التي لاحظتها في دروس الثلاثاء تسود الجيش المصري لعاد ذلك عليه بالخير الكثير, وأن أول شيء يجب البدء فيه هو تكوين مجموعة من الضباط تعتنق مبادئ جماعة الإخوان المسلمين, وهى الحق والقوة والحرية, لتكون نواة تنب منها خلايا تعم كل وحدات الجيش، فاستحسن الإمام البنا كلامي وقال لي: إن أخاك الصاغ محمود لبيب سيعينك على تحقيق هذه الفكرة, وسيكون المشرف على تكوين هذه المجموعة, وتمنى لنا التوفيق". (2)
ثانيًا: نشاط صحيفة الإخوان "النذير" في مناقشة قضايا الجيش جنودًا وضباطا، حيث أفسحت المحال لمناقشة الأخطاء والعيوب التي تسمح بها أكالات الجيش المختلفة كنظام المراسلة للجنود الذي ما يزال قائمًا حتى الآن، وعدم إقامة الأذان في أوقات الصلاة، بل وعدم تخصيص وقت لصلاة الجنود، ومن ذلك تلك العريضة التي أرسلت إلى القصر في ديسمبر عام 1941م تطالب بمنع ما يتعارض مع الإسلام، وإلغاء معاهدة 1936م، ومنح الجندي الحق في الامتناع عن أي عمل يناقض الشرع، ووزعت منشورات في داخل وحدات الجيش بمضمون هذه العريضة التي وقعت باسم "الجنود الأحرار".
ثالثًا: جرت العادة بتنظيم دروس للجنود والضباط في المناسبات الإسلامية كالهجرة النبوية والمولد النبوي وشهر رمضان، ولم تكن تتقيد عادة بالوعاظ الرسميين، ويشرف على هذه الدروس بعض الضباط التابعين لوحداتهم، ومنذ عام 1938م كان الإمام حسن البنا أحد هؤلاء الوعاظ، فكانت كلماته تبعث في سامعيه الرغبة في الانتماء إلى ما يدعو إليه في وقت كانوا يشعرون فيه بالضياع، ولذا وجدت دعواه صداها بين الضباط والجنود والعمال العسكريين.

 

وكانت مدرسة الصيانة التابعة لسلاح الصيانة تنظم درسًا أسبوعيًا كل أربعاء، فقام الطلبة من الإخوان كالأخ عباس السيسي بدعوة الإمام حسن البنا، فزادت صلة الإخوانبالجماعة، وضمت الجماعة أفرادًا جددًا.

تضافرت هذه الأسباب وغيرها في زيادة إقبال جنود وضباط الجيش للالتحاق بصفوف جماعة الإخوان المسلمين؛ سعيًا لتحقيق الاستقلال التام، واقتناعًا بأهدافها، وإحياء لمجد الإسلام وعزه.

ولما كثر عدد المنتسبين من الضباط في النظام، وضاقت قدرات عبد الرحمن السندي وثقافته عن تلبية نوازعهم الفكرية وأشواقهم إلى العمل الجدي، أفرد لهم الإمام البنا قسمًا خاصًا يرأسه الصاغ محمود لبيب وكيل الإخوان ورئيس الجوالة وقتئذ، وبدأ استقلال محمود لبيب بعمله في هذا القسم عام 1944م مستعينًا بعبد المنعم عبد الرؤوف.. وبدأت أولى خطوات جماعة الإخوان الضباط.

بدأ عبد المنعم عبد الرؤوف في الانتشار وسط زملائه الضباط، واختبارهم لقبول تلك الفكرة والعمل لها، وفي أكتوبر1944م قام بدعوة النقيب جمال عبد الناصر حسين رئيس الجمهورية بعد ذلك لحضور درس الثلاثاء لفضيلة الإمام حسن البنا بدار المركز العامللإخوان المسلمين، ثم أتبعه بالملازم أول حسين أحمد حمودة والملازم كمال الدين حسين؛

ثم دعا الملازم أول حسين أحمد حمودة ضابطين هما شقيق زوجته الملازم أول سعد توفيق, والملازم أول صلاح الدين خليفة الذي دعا بدوره زميله الملازم أول خالد محيي الدين, "واكتمل عددنا سبعة عام 1944م, وواظبنا على اللقاء أسبوعيًا في بيت هذا مرة, وفى منزل ذاك مرة أخرى, ولم يتغيب الصاغ محمود لبيب عن هذه اللقاءات إلا فيما ندر. (3)

يقول خالد محيي الدين:

 

"كنا في نهاية عام 1944م وكانت الحيرة تغلفنا جميعًا بحثًا عن طرق لنا ولمصر، وذات يوم مر عليّ عبد المنعم عبد الرؤوف، وعرض عليّ أن نلتقي بضابط آخر يحمل ذات الهموم، ويبحث عن إجابات لذات الأسئلة، وأخذني لأقابل جمال عبد الناصر، وكان لقائي الأول معه.
اصطحبت عثمان فوزي لمقابلة عبد المنعم عبد الرؤوف في جزيرة الشاي بحديقة الحيوان حيث قابلت الصاغ محمود لبيب الذي عرفت فيما بعد أنه مسئول الجناح العسكري في الإخوان المسلمين، وبدأ محمود لبيب يتكلم في تؤدة ويتطرق إلى موضوع الدين دون تعجل، وتحدث عن القضية الوطنية بنكهة إسلامية، فاشتم عثمان فوزي رائحة الإخوان من الحديث،
وقال لي ونحن عائدان من مقابلتنا: هذه جماعة خطرة وضارة.. لكنني كنت سعيدًا بالمقابلة، وقلت: إن الوطن بحاجة إلى تضحية، والاتجاه الإسلامي يمكنه أن يبث في الشباب روح التضحية.وبدأت علاقة من نوع غريب مع جماعة الإخوان، وتكونت مجموعة عسكرية تضم العديد من الضباط، ولم نعد نلتقي في أماكن عامة، وإنما بدأنا نعقد اجتماعات منتظمة في البيوت". (4)

 

التقى هؤلاء الضباط على قضايا وطنية، وإيمان بالفكرة الإسلامية ودورها في تحريك الجماهير، وأملاً في جماعة الإخوان المسلمين لتحقيق الاستقلال التام لمصر، وتبنوا فكر الإخوان ورأيهم في مشكلات الساعة، وواظبوا على حضور درس الثلاثاء فرادى ومتفرقين اتقاء لأعين المخابرات، غير أنهم حتى الآن لم يكونوا أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين.

وحين خرج الطلبة في مظاهرات عارمة عام 1946م للمطالبة بالجلاء ووحدة وادي النيل, طالب الضباط بضرورة تنظيم شباب الإخوان المسلمين عسكريًا، وتدريبهم على استعمال الأسلحة وحرب العصابات, فقال لهم الصاغ محمود لبيب: إذا أردتم أن تسهموا معنا بجهودكم في هذا السبيل فلابد من أخذ عهد وميثاق وقسم على هذا، فوافقنا وأبدينا استعدادنا جميعًا.

يقول عبد المنعم عبد الرؤوف:

 

"ذهبنا نحن السبعة في ليلة من أوائل عام 1946 إلى المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين بالملابس المدنية حسب اتفاق سابق, وبعد أن تكامل عددنا قادنا صلاح خليفة إلى منزل في حي الصليبة بجوار سبيل أم عباس, حيث صعدنا إلى الطابق الأول فوق الأرض, ونقر صلاح خليفة على الباب نقرة مخصوصة وسأل: الحاج موجود؟
وكانت هذه هي كلمة السر ففتح الباب, ودخلنا حجرة ذات ضوء خافت جدًا مفروشة بالحصير, وفيها مكتب موضوع على الأرض ليست له أرجل, فجلسنا على الحصير، ثم قادنا صلاح واحدًا بعد الآخر لأخذ العهد وحلف اليمين في حجرة مظلمة تمامًا, يجلس بها رجل مغطى بملاءة فلا تعرف شخصيته, وكان سؤال الشخص المتخفي الذي يأخذ العهد: هل أنت مستعد للتضحية بنفسك في سبيل الدعوة الإسلامية؟
فكان الجواب من كل منا: نعم.
فقال: امدد يدك لتبايعني على كتاب الله وعلى المسدس.
ثم قال الرجل المتخفي: إن من يفشى سرنا ليس له سوى جزاء واحد وهو جزاء الخيانة.
وبعد أن أعطى كل منا البيعة, عدنا إلى الحجرة الأولى ذات الضوء الخافت، فوجدنا شخصًا عرفنا بنفسه, وذكر أن اسمه عبد الرحمن السندي, وقال: إنه يرأس النظام الخاصللإخوان المسلمين، وكان الذين بايعوا على فداء الدعوة الإسلامية في هذه الليلة حسب الأقدمية في كشوف الجيش:

 

 

 

  1. النقيب عبد المنعم عبد الرؤوف من الكتيبة الثالثة مشاة.
  2. النقيب جمال عبد الناصر حسين من الكتيبة الثالثة بنادق مشاة, ورئيس الجمهورية فيما بعد.
  3. الملازم أول كمال الدين حسين من سلاح المدفعية، وعضو مجلس قيادة الثورة فيما بعد.
  4. الملازم أول سعد حسن توفيق.
  5. الملازم أول خالد محيي الدين من سلاح الفرسان وعضو مجلس قيادة الثورة فيما بعد، ورئيس حزب التجمع.
  6. الملازم أول حسين محمد أحمد حمودة من الكتيبة الثالثة بنادق مشاة.
  7. الملازم أول صلاح الدين خليفة من سلاح الفرسان.

وقد روى تفاصيل البيعة أيضًا خالد محيي الدين في مذكراته "والآن أتكلم" ص 45 وحسين حمودة في مذكراته "أسرار حركة الضباط الأحرار والإخوان المسلمين" ص 35 وهي ثابتة بما لا يدع مجالاً للشك بها.. وهكذا أصبح هؤلاء الضباط أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين مشكلين بذلك "جماعة الإخوان الضباط" كما أطلق عليها عبد المنعم عبد الرؤوف.

ومن ثم ازدادت خلايا الجماعة في أسلحة الجيش, فمن سلاح الطيران انضم حسن إبراهيم مصطفيومصطفى بهجت, ومن سلاح خدمة الجيش معروف الحضريوعبد الرحمن محمد أمين، ومجدي حسنين، وإبراهيم الطحاوي, ومن المشاة فؤاد جاسر، وجمال ربيع، وأحمد حمدي عبيد، ومحمد أمين هويدي وزير الحربية فيما بعد ومحمد كمال محجوب، ووجيه خليل, ومن مدافع الماكينة وحيد جودة رمضان

وبدأ الضباط في برنامج تدريب شباب الإخوان المسلمين على استخدام الأسلحة،يقول حسين حمودة:

 

"قمت أنا وكمال الدين حسينوخالد محيي الدين بترجمة كتاب عن حرب العصابات من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية، وكنا نقعد حلقات الترجمة يوميًا في منزلي بحمامات القبة بعد صلاة العصر.وبعد أن فرغنا من الترجمة أعطيتها لجمال عبد الناصر الذي قام بطبعها في مطبعة الكلية الحربية حيث كان يعمل مدرسًا بها.
وبعد الطبع أرسل جمال عبد الناصر النسخ المطبوعة إلي في منزلي، وسلمت بدوري جميع نسخ كتاب حرب العصابات بعد ترجمتها إلى العربية لعبد الرحمن السندي، وقد قام عبد الرحمن السندي بتوزيع نسخ هذا الكتاب بمعرفته على أفراد التنظيم السري المدني التابع له.
وبدأنا بعد ذلك مرحلة جادة في تدريب شباب الإخوان المسلمين، وكانت التدريبات تتم في صحراء حلوان وجبل المقطم وفي محافظة الشرقية ومحافظة الإسماعيلية، وقد اشترك جمال عبد الناصر معي في تدريب شباب الإخوان المسلمين عامي 1946 ، 1947م.
وكان التدريب يتم على الأسلحة الصغيرة مثل الطبنجات والبنادق والرشاشات القصيرة والقنابل اليدوية وأساليب النسف والتدمير وأسلوب استخدام زجاجات المولوتوف ضد دبابات العدو.والتدريب كان يتم لرؤساء الخلايا وهم يدربون الأفراد التابعين لهم بدورهم؛ وذلك لأن معرفة أفراد التنظيم بالكامل لأي شخص غير مطلوبة للأمن السري.
وكان الفضل في تحقيق هذا الجلاء عن القاهرةوالإسكندرية إلى شباب الإخوان المسلمين الذين شنوا حرب عصابات ضد الإنجليز وكان ذلك بتوجيه لجنة الضباط السبعة التي ذكرتها قبل ذلك وهم عبد المنعم عبد الرؤوف وجمال عبد الناصر وكمال الدين حسين وسعد حسونة توفيق وخالد محيي الدين وصلاح خليفة وكاتب هذه السطور". (5)
وزادت خلايا الجماعة باطراد كبير، ولم يكن بمقدور أحد أن يتعرف على باقي أعضاء الجماعة جميعًا،"وكان محمود لبيب يحضر الاجتماع الأسبوعي للخلية الرئيسية، ويحضر أيضًا الاجتماعات نصف الشهرية للخلايا الفرعية المنبثقة من الخلية الرئيسية، وأصبح بذلك محمود لبيب هو الشخص الوحيد في هذا التنظيم السري الذي يعرف جميع المشتركين فيه.. وصار حلقة الاتصال بين الضباط المنضمين للتنظيم ليس في الجيش فقط بل وفي الطيران أيضًا، وكان محمود لبيب بالنسبة لنا جميعًا في منزلة الوالد أو أكثر يحاول ربط أكبر عدد من ضباط القوات المسلحة على فكرة العمل بشريعة الإسلام". (6)

 

وبقيام حرب فلسطين في 15 مايو1948م توقف التنظيم عن العمل لظروف الحرب، ومشاركة أغلب الضباط فيها، والتنظيم الخاص لجماعة الإخوان المسلمين، ثم ازدادت الأمور سوءًا بقرار النقراشي حل جماعة الإخوان المسلمين في 8 ديسمبر1948م والتحفظ على مقراتها، ومصادرة أموالها، واعتقال أفرادها تمهيدًا لاغتيال الإمام حسن البنا في 12 فبراير1949م، وظهور حركة العصيان والتفكك في النظام الخاص بقيادة عبد الرحمن السندي، واعتقال الإخوان المسلمين العائدين من فلسطين، وعادت قواتنا المحاصرة في الفالوجا في 11 مارس1949م إلى القاهرة حاقدة على الملك فاروق وحاشيته وهيئة أركان حربه.

فعقد التنظيم عدة اجتماعات برئاسة الصاغ محمود لبيب انتهوا فيها إلى النتائج الآتية:

 

أولاً: الثأر لمقتل الشهيد حسن البنا بعد التأكد من معرفة القتلة.
ثانيًا: الحذر من أفراد الحرس الحديدي, وبذل الجهود لمعرفة كل شيء عن أفراده.
ثالثًا: التخلص من النظام الملكي، واستبداله بنظام إسلامي.
رابعًا: الاستمرار في تدريب ومد الإخوان المسلمين بالذخائر والأسلحة والمفرقعات لطرد الإنجليز من بلادنا. (7)

 

ومنذ تأسيس التنظيم كانت تجمع اشتراكات من الأعضاء للاستعانة بها في التدريب والمساعدات الاجتماعية للأفراد في حالات الضرورة، وفى 25 من مايو1949 استدعى جمال عبد الناصر لمكتب رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادي بتهمة الانتماء إلى الإخوان المسلمين وتدريبهم, وذلك بعد وصولهم كتابًا عن القنابل اليدوية موقع باسم جمال عبد الناصر مع أحد الإخوان المسلمين، فأجاب جمال عبد الناصر أن أحد الإخوان استعاره منه في حرب فلسطين، وقتل شهيدًا، وبذلك استطاع أن ينفى هذه التهمة عنه.

وأسرع الصاغ محمود لبيب المسئول عن تنظيم الإخوان الضباط بإرسال مرتب شهر لزوجة جمال عبد الناصر, وإبلاغها اهتمام إخوانه الضباط بموضوع التحقيق، وأنهم لن يتخلوا عنه, مما أثبت قوة ارتباطنا ماديًا.

وبمناسبة هذا الحادث اقترح علينا الصاغ محمود لبيب استبدال اسم تنظيم الإخوان الضباط باسم "الضباط الأحرار"؛ لإبعاد اسم جماعة الإخوان المسلمين المكروهة من الملك والأحزاب العميلة والإنجليز.

بوادر الخلاف

إلى هنا كان التنظيم إخوانيًا بحتًا: في الفكرة، والأفراد، والوسائل، والغايات، إلا أن الأستاذ حسن العشماوي أقرب المقربين من الإخوان إلى عبد الناصر يروي لنا بداية انفصال التنظيم عن الإخوان كما حكاه له جمال عبد الناصر نفسه بعد ذلك،

يقول:

 

"اتفق جمال مع الصاغ محمود لبيب عام 1947م على أن يخرج من الجماعة برضاها، ليؤسس جماعة سرية مستقلة في الجيش يضمن له استمرارها أمرين: أولهما التخلص من القيادة المدنية في النظام الخاص، وثانيهما تخفيف القيود على بعض المنضمين إليها من ناحية السلوك الإسلامي، مع منع هؤلاء من الوصول إلى مراكز القيادة، أو بتعبير آخر ردده لي جمال: اتفقنا على أن نكون جهازًا جديدًا من أجهزة الدعوة يعمل مستقلاً، لا تتحمل الدعوة أخطاره أو فشله، وتجني لمصلحة الإسلام نتائج نجاحه.
واقتنع المرحوم الصاغ محمود لبيب بذلك، وعرضه على المرشد الإمام البنا فأقره مرددًا: أفلح إن صدق، وإلا فمن نكث فإنما ينكث على نفسه". (8)

 

وقد انفرد العشماوي بهذه الرواية دون غيره التي تفيد أن استقلال التنظيم كان بالتنسيق مع الإخوان، وبموافقة الصاغ محمود لبيب والإمام البنا نفسه، وان ذلك كان في حياته، ونحن لا نطمئن إلى هذه الرواية لأسباب:

 

أولاً: أن لها راوٍ واحد هو حسن العشماوي دون غيره، وصاحبها صاحب الخصومة الذي يبحث عن مبررٍ لتبرير انفصاله عن الجماعة بتنظيمها في الجيش كاملاً.
ثانيًا: لا يتوافق ذلك مع شخصية الإمام البنا المركزية التي لا تهدأ إلا بمتابعة كل الأمور وقيادتها بنفسه حتى يتأكد من استمرار العمل وفق كتاب الله وسنة رسوله الكريم، وبالتزام الخطة التي رسمها الإخوان بمراحلها، أضف إلى ذلك حساسية التنظيم وخطورته، والأضرار الناجمة عن انفصاله، وترك العمل بالأهداف المرجوة منه.
ثالثًا: لا تتضح معالم هذا الانفصال، وحدود المشترك، وكيفية التنسيق، والتأكد من صحة الاستمرار على النهج، ولم توضح كيفية منع غير المنتمين إلى الإخوان من أعضاء التنظيم من تبوء المراكز القيادية.
رابعًا: تتنافى تلك الرواية مع ما ذكره حسين حمودة في مذكراته أن التنظيم ظل بيد الصاغ محمود لبيب الوحيد الذي يعلم كل أعضاء التنظيم ويحتفظ باشتراكات أعضائه حتى قبيل وفاته إذ سلم كشفًا بكل الأعضاء والاشتراكات المتبقية طرفه إلى جمال عبد الناصر قبيل وفاته وبحضور حسين حمودة نفسه، وسنذكرها في حينها.

 

لذلك فنحن لا نطمئن إلى أن استقلال التنظيم كان بعلم الإخوان وموافقتهم على ذلك، ونميل إلى الرأي القائل: إن جمال عبد الناصر هو من سعى إلى استقلال التنظيم عن الجماعة، لتكون حدود المشترك بينهما التنسيق المتفق عليه لإنجاح الحركة.

وساعد على استقلال التنظيم نقل عبد المنعم عبد الرؤوف إلى منطقة القنال وابتعاده عن القاهرة، حيث استغل جمال عبد الناصر هذه الفرصة لتحويل ولاء أفراد التنظيم من جماعة الإخوان إليه شخصيًا، وضم أفراد جدد دون التقيد بشروط الإخوان.

يقول عبد المنعم عبد الرؤوف:

 

"في سبتمبر1949 أبلغني جمال عبد الناصر في إحدى إجازات الميدان أنه يريد عمل انقلاب, ولا يستطيع تجميع الضباط حول مبادىء جماعة الإخوان المسلمين واتباع هذا الأسلوب المتزمت في اختيارهم المتمثل في أن يشترط في الضابط الذي يراد ضمه للتنظيم اجتناب الخمر والميسر والنساء الساقطات, وضرورة المواظبة على الصلاة ومحبة الجنود له، والتزام النساء من أهله بالزى الإسلامي, والطاعة لقرارات مكتب الإرشاد.
وطال الجدال بيني وبين جمال عبد الناصر, واستغرق عدة ساعات, وظل كل منا متمسكًا برأيه, جمال عبد الناصر يريد ضم أكبر عدد من الضباط بصرف النظر عن التسيب الخلقي والتحلل من الزى الإسلامي لنساء عائلة الضابط, كما عارض بقوة طاعة الضباط لمكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين ووصفهم بالتزمت.
قلت له: إن التسيب في اختيار الضباط سيوقعنا في مطبات المخابرات, كما أن عدم ارتداء زوجاتنا للزى الإسلامي سيجعلنا أضحوكة أمام جنودنا في المناسبات الدينية والوطنية والطريق العالم.
وأما قرارات مكتب الإرشاد فلا تصدر إلا بعد تمحيص من خبراء الجماعة, وقد أثبتت الحوادث صحة قرارات مكتب الإرشاد, كما أن تاريخ جماعة الإخوان المسلمين ناصع من جميع الوجوه السياسية والاجتماعية والعسكرية.
وقد انتهى النقاش بيني وبين جمال عبد الناصر بأن نستنير برأي الفريق عزيز المصري, وأبلغت وجهة نظر جمال عبد الناصر للصاغ محمود لبيب.
ثم ذهبت أنا وجمال عبد الناصر إلى الفريق المصري, وبعد أن استمع لكل منا قال: اعملا معًا لطرد الإنجليز من مصر, ثم تابعا الكفاح لإلغاء النظام الملكي، وإياكما والخصام لأنه يشتت قواكما, وإذا لم تستطيعا العمل معًا, فسيرا نحو الهدف متوازيين كقضيبي السكة الحديد.
قلت: إنني سأعمل بهذه النصيحة في إطار ما تسمح به أوامر قيادة الإخوان المسلمين.
وقال جمال عبد الناصر: إن هدفي الأول هو إلغاء النظام الملكي، وقد انضم إلى تنظيم الضباط الأحرار ضباط حوصروا معي في الفالوجا, مثل صلاح سالم, ويعمل معنا عبد الحكيم عامر, وخالد محيي الدين.
وبعد ذلك ذهبت إلى الصاغ محمود لبيب وحدثته بكل ما قاله جمال عبد الناصر وعزيز المصري وما قلته أنا فقال: قل لجمال إن الجماعةالإخوان المسلمين متزمتة متزمتة!
وبعد بضعة أشهر أصيب الأخ الكبير الصاغ محمود لبيب بالفالج ولزم الفراش وبد عليه الهزال, وكانت شقيقته تقوم بخدمته وتمريضه, وكان يستخدم الإشارة في طلب ما يريد.
وقد أنهيت آخر زيارة بأن قبلته على جبينه وكانت قبلة الوداع فبعدها بأيام قرأت خبر وفاته في نعى نشر بالصحف وكنت في الشط عام 1950 رحمه الله رحمة واسعة". (9)

 

عبد الناصر يقود تنظيم الإخوان

هذه الزيارة وإن كانت الأخيرة لعبد المنعم عبد الرؤوف إلا أنها أتبعت بزيارة أخرى مهمة يروي تفاصيلها حسين حمودة فيقول:

 

"في عام 1949 وقبل وفاة الصاغ محمود لبيب, وكان قد دهمه المرض, فزرته أثناء إجازتي الميدانية فوجدت عنده جمال عبد الناصر حسين, وكانت حالة الصاغ محمود لبيب متأخرة ولكنه كان صافى الذهن؛
وكان راقدًا على فراشه وقال لنا: إني سأموت وسأكتب مذكرة بأسماء الضباط الذين يشملهم تنظيم الإخوان الضباط, والمبالغ المتبقية من الاشتراكات، وسأسلمها لجمال عبد الناصر لتستمروا في تحقيق الرسالة من بعدى، وطلب مني أن نكون يدًا واحدة، وأن يتعاون جمال عبد الناصر وعبد المنعم عبد الرؤوف.
ونظرًا لانشغالي بموعد آخر فقد انصرفت وتركت جمال عبد الناصر مع الصاغ محمود لبيب، ولما توفى الصاغ محمود لبيب يوم الثلاثاء 18 ديسمبر1951م شاركت في جنازته، وشارك فيها أيضًا جمال عبد الناصر, وبعد انتهاء الجنازة سألت جمال عبد الناصر: هل سلم لك المرحوم الصاغ محمود لبيب ورقة الأسماء والنقود؟ فأجابني جمال عبد الناصر بأنه لم يخرج من بيته يومها إلا ومعه الورقة بالأسماء والنقود". (10)

 

وهكذا صار جمال عبد الناصر قائد تنظيم الإخوان الضباط، إلا أنه لم يلتزم ذلك النهج الذي رسمه الصاغ محمود لبيب، وإنما عمل على الاستئثار بالتنظيم، وتحويل ولاء أعضائه إليه شخصيًا، والعمل على ضم أفراد جدد لا تتوافر فيهم تلك الروح الإسلامية، وأقنع الجميع أن الابتعاد بالتنظيم عن الإخوان المسلمين يسهل مهمته، ويعزز قوته، ويزيد من فرص نجاحه، وساعده على ذلك وفاة الإمام حسن البنا ومحمود لبيب، وقطع صلته بعبد الرحمن السندي، وضم إلى التنظيم مَنْ قاسموه محنة الفالوجا من أمثال صلاح سالم وعبد الحكيم عامر وممن تتوافر فيهم الشجاعة والكتمان وضياع الأخلاق.

"وكان من الطبيعي أن يفزع أصحاب الخلق من ضباط الإخوان من هذا الخليط الجديد الذي ضم إليهم قبل قيام الحركة فتري كمال الدين حسين يصارح عبد الناصر برأيه في نوعية هذه الفئة التي ضمها إلى التشكيل، ولكن عبد الناصر بجيبه ضاحكًا بأنه كان مضطرًا لجمع أي عدد من المندفعين والمغامرين أحضرهم من غرز الحشيش والبارات!

ويعلق كمال الدين حسين على ذلك فيقول:

 

إن هؤلاء كانوا أول من أساء إلى الثورة بعد قيامها بتصرفاتهم، وتحقيق المكاسب المادية لأنفسهم، وتكوين الثروات من المال الحرام.

 

وأضاف كمال الدين حسين:

 

أن عبد الناصر أخذ يضم إلى التنظيم كل من هب ودب دون مراعاة للأصل الذي جرى الالتقاء عليه مع محمود لبيب.. فلم يسىء ذلك فقط إلى الحركة في ذاتها، وإنما أخرجها عن أهدافها التي التقى عليها مع محمود لبيب: "العقيدة" في إطار "الجماعة".
وكان جمال عبد الناصر إذا سئل عن تفلت هؤلاء الضباط من القيم والأخلاق أرجع ذلك إلى بدء دخولهم التشكيل! وأن صقلهم يتم على مراحل، وكان يعلن لهؤلاء الضباط عدم تبعيتهم لأي حزب أو جماعة، ويعنى ذلك حقًا في قرارة نفسه، وكان يعتذر لمن يسأله من ضباط الإخوان عن هذا التناقض بين سلوكه مع الضباط الجدد وارتباطه بالجماعة بأن الوقت لم يحن بعد لإطلاعهم على الحقيقة! حفاظًا على كيان التنظيم!". (11)

 

ولم يكن كمال الدين حسين وحده في هذا الصدد، بل كان يتكلم بلسان ضباط التنظيم من المدفعية، وأبدى حسين حمودة كذلك اعتراضه على ذلك الخلط، يقول:

 

".. تناقشت مع جمال عبد الناصر في الشروط الواجب توافرها في الضباط الذين سنضمهم للتشكيل الجديد، وقلت له: إننا كنا نراعي فيمن نضمهم لتنظيم الضباط الإخوان في الجيش أن يكونوا من ذوي الأخلاق الحميدة والضمائر الحية، فضلاً عن صفة الشجاعة وكتمان السر، وأن من لا يخشى الله لا يستبعد عليه ارتكاب أي جريمة، وبخاصة لو نجحت الثورة وأصبح في يده سلطة.
فأجاب جمال عبد الناصر بأن الحالة السياسية في مصر خطيرة جدًا، والإصرار على توفر صفة التدين في الضباط تزمت لا داعي له؛ لأن أغلبية ضباط الجيش في ذلك الوقت لا تتوافر فيهم صفة التدين، و