في تكرار ممنهج ومقلق لسيناريو "الغاز الإسرائيلي" الذي أغرق مصر في دوامة تبعية استراتيجية واقتصادية طويلة الأمد، تشن إسرائيل حملة ابتزاز مائي صريح ضد الأردن برفض تجديد اتفاق وادي عربة، مما دفع عمان إلى التوجه الفوري نحو حفر آبار جوفية كبديل طارئ لسد عجز يهدد أمنها المائي الوطني.

 

هذه الأزمة ليست مصادفة تقنية أو نقصاً موسمياً، بل استراتيجية مدروسة تهدف إلى ربط حياة ملايين الأردنيين بقرارات سياسية إسرائيلية، تماماً كما تحولت اتفاقات الغاز في مصر إلى أداة ضغط دائمة تحول دون استقلالية القاهرة في ملفات الطاقة والسياسة الإقليمية.

 

الأسباب الجذرية تكمن في عقاب تل أبيب لمواقف الأردن الداعمة لفلسطين، مع رفض مشاريع أردنية سيادية للتحلية والسدود، لفرض هيمنة كاملة على الأمن المائي العربي عبر صفقات غير متكافئة مثل "الماء مقابل الكهرباء".

 

أسباب الابتزاز الصهيوني: عقاب سياسي ورفض مشاريع أردنية سيادية

 

الأزمة الحالية ليست وليدة نقص مياه مفاجئ، بل نتاج تراكمي لسياسة إسرائيلية تربط التزويد المائي بمواقف الأردن السياسية.

 

بموجب معاهدة وادي عربة لعام 1994، يُفترض أن توفر إسرائيل 50 مليون متر مكعب سنوياً من مياه بحيرة طبريا للأردن، مقابل 50 مليون من نهر اليرموك.

 

لكن السنوات الأخيرة شهدت تكراراً للنمط: مماطلة في التجديد، خفض الكميات، أو رفع الأسعار كرد فعل على أي خطوة أردنية تُزعج تل أبيب.

 

من جانبه، يؤكد المحلل السياسي نظام المهداوي أن الرفض الحالي "عقاب مباشر" لموقف الأردن الداعم لغزة، حيث أغلق عمان معبري نصيب وإيرز، ورفض استئناف صفقة "الماء مقابل الكهرباء" التي كانت ستزود الأردن بـ215 مليون متر مكعب سنوياً مقابل كهرباء إسرائيلية بقيمة 1.5 مليار دولار.

 

وفي السياق نفسه، يضيف المحلل الأردني ياسر الزعاترة أن إسرائيل تريد ربط المياه بـ"التزامات أمنية"، مثل السماح بمراقبة حدود مشتركة أو دعم هادئ للتطبيع الإقليمي مع دول الخليج، تماماً كما فرضت في مصر شروطاً سياسية مقابل الغاز أثناء أزمات الطاقة.

 

الرفض الأبرز كان لمشروع محطة التحلية في العقبة، الذي يهدف إلى إنتاج 200-300 مليون متر مكعب سنوياً من مياه البحر الأحمر، برعاية سعودية-إماراتية.

 

ومن وجهة نظره، يرى الخبير الاستراتيجي ساري عرابي في ذلك "رفضاً لأي استقلالية أردنية"، إذ يمنع تنويع المصادر ويجبر عمان على الاعتماد الكلي.

 

هذا النمط يعيد إنتاج فخ الغاز المصري، حيث أصبحت القاهرة تستورد 1.8 مليار قدم مكعب يومياً من إسرائيل رغم إنتاجها المحلي البالغ 4.2 مليار، مما جعلها مدمنة على التوريد الإسرائيلي وغير قادرة على مواجهة الابتزاز أثناء انخفاض الإنتاج أو التوترات الإقليمية.

 

طموحات إسرائيل: سيطرة كاملة على الأمن المائي العربي عبر صفقات هيمنة

 

يهدف نتنياهو إلى تحويل الأردن إلى "عميل مائي" يغطي 80% من احتياجاته من إسرائيل، عبر مشاريع مثل خط أنابيب مياه من البحر المتوسط إلى عمان، أو توسيع "الماء مقابل الكهرباء" برعاية أمريكية.

 

وفي تحليله، يصف المراقب السياسي نور الدين علوي ذلك بـ"الاستعمار المائي"، مشابهاً لفخ الغاز حيث منحت إسرائيل لمصر ورقة ضغط دائمة، مما حال دون تطوير حقول محلية مثل ظهر.

 

إسرائيل تسعى أيضاً للسيطرة على نهر الأردن واليرموك، عبر سحب مفرط يقلل تدفق المياه إلى الأردن بنسبة 40%، مع رفض مشاريع سدود أردنية مثل "السد العالي على اليرموك" الذي ينتج 250 مليون متر مكعب.

 

من جهته، يحذر الدكتور فايز أبو شمالة، الخبير البيئي والاستراتيجي، من أن هذا "كارثة بيئية"، إذ يؤدي إلى استنزاف الجوفية الأردنية (انخفاض 2 متر سنوياً)، ولوث البحر الأحمر بملح التحلية، وتأثير على الزراعة بنسبة 70% انهيار محتمل.

 

التبعات السياسية مدمرة: تقليص حرية الأردن في دعم غزة والقدس، وزيادة الاعتماد الأمني المشترك، كما حدث مع مصر حيث أصبح الغاز أداة للضغط في مفاوضات وقف إطلاق النار.

 

ويؤكد ساري عرابي أن إسرائيل تريد "شبكة هيمنة إقليمية" تشمل مصر (غاز)، الأردن (مياه)، ولبنان (نفط شرق المتوسط)، لتحويل الدول العربية إلى ممرات موارد تحت رحمتها.

 

مشاريع الأردن السيادية المرفوضة والمخاطر البيئية والسياسية

 

الأردن يمتلك خططاً سيادية رفضتها إسرائيل: محطة العقبة للتحلية (300 مليون متر مكعب، شراكة سعودية)، إعادة تدوير 90% من مياه الصرف الصحي، حفر 50 بئراً جوفياً جديداً في وادي الأردن، واستصلاح 100 ألف دونم زراعي بتقنيات الري الذكي.

 

ويعلق نظام المهداوي بأن رفض إسرائيل "خوفاً من فقدان الورقة"، إذ يجعل هذه المشاريع الأردن مكتفياً ذاتياً بنسبة 60% خلال 5 سنوات.

 

كما يضيف ياسر الزعاترة أن الرفض يخفي مخاوف بيئية حقيقية: زيادة ملوحة البحر الأحمر بنسبة 10%، وتأثير على الشعاب المرجانية، بالإضافة إلى استنزاف جوفية سيناء إذا امتدت الشراكات.

 

ويحذر نور الدين علوي من تبعات سياسية: تحول الأردن إلى "دولة عطشى" تعتمد على إسرائيل، مما يحد من دوره في دعم فلسطين ويفتح باباً لتدخلات أمنية مشتركة.

 

أما د. فايز أبو شمالة فيربط بالمصري: كما أهملت مصر حقولها مقابل الغاز، قد يؤدي الابتزاز إلى إهمال مشاريع أردنية، مع ارتفاع فاتورة الاستيراد المائي إلى مليارات.

 

ويدعو ساري عرابي لشراكات عربية: تحلية مشتركة مع السعودية في خليج العقبة، واستثمار إماراتي في السدود، لكسر الاعتماد.

 

كسر الفخ: خيارات استراتيجية للأردن قبل الوقوع في المصيدة

 

يلخص الخبراء اتفاقاً: كسر الفخ يتطلب رفض الصفقات التبعية فوراً، تعزيز الشراكات العربية (سعودية-إماراتية)، ومواجهة الابتزاز سياسياً عبر منظمة التعاون الإسلامي.

 

يقترح نظام المهداوي حملة إعلامية دولية لفضح الابتزاز، ويدعو ياسر الزعاترة لبرلمان أردني يشرف على المفاوضات، ويطالب ساري عرابي بـ"صندوق مياه عربي"، ويؤكد نور الدين علوي على "الاستقلال السيادي"، بينما يحذر د. فايز أبو شمالة من "الانهيار البيئي" إذا استمر الاعتماد.

 

الأردن أمام مفترق: إما يصبح "ممر مائي" كمصر مع الغاز، أو يبني أمناً مائياً حقيقياً برفض الهيمنة، قبل أن يصبح العطش سلاحاً دائماً يقيد القرار الوطني إلى الأبد.