تحركات ملاك وحاجزي مشروع أبراج بداية في الدقي تكشف واحدة من أخطر صور الانهيار المؤسسي في ظل حكم الانقلاب، حيث تُترك مئات الأسر التي دفعت مدّخراتها كاملة لسنوات في مواجهة جمعية منفذة وشركة مقاولات تتقاعسان عن استكمال المشروع، رغم الأحكام القضائية النهائية الملزِمة. في دولة طبيعية، مثل هذه القضية تكون عنوانًا لتدخّل حاسم من الحكومة والرقابة والقضاء التنفيذي لحماية المواطنين، لكن ما يجري في مصر اليوم هو العكس تمامًا: مواطنون يطاردون حقوقهم بأنفسهم، وسلطات تتفرج، ومقاولون يماطلون، وأموال مجمّدة ومهددة بالضياع في مشروع كان يفترض أن يكون سكنًا آمنًا، فتحوّل إلى كابوس مالي واجتماعي.

 

اتحاد ملاك في مواجهة دولة متواطئة بالصمت

 

الاجتماع التشاوري الأول بمقر نادي المحامين النهري بالعجوزة لم يكن مجرد لقاء تعارف بين متضررين، بل إعلان عن بدء معركة قانونية وإدارية مفتوحة ضد المنفذين، في ظل غياب تام لدور الدولة في فرض تنفيذ الأحكام وحماية المتعاقدين. قرار الملاك والشاغلين بالشروع في تأسيس اتحاد لملاك الأرض والمنتفعين بالمشروع، وإجراء انتخابات لاختيار إدارة تمثلهم، يعكس شعورًا عامًا بأن مؤسسات الدولة لم تعد وسيطًا نزيهًا ولا ضامنًا للعقود، وأن الطريق الوحيد الباقي أمام المتضررين هو تنظيم أنفسهم كقوة ضغط جماعية لمواجهة استهتار الجمعية المنفذة والشركة المتعاقدة. المفارقة أن هذا التنظيم الذاتي يأتي في بلد ترفع فيه السلطة شعارات «الجمهورية الجديدة» و«الدولة القوية»، بينما يعجز المواطن عن إجبار مقاول على تنفيذ عقد موثّق وأحكام قضائية باتة.

 

قرارات حاسمة ضد الجمعية والشركة.. وأصابع تُشير إلى فساد منظّم

 

مجريات الاجتماع انتهت إلى حزمة قرارات تعكس حجم الاحتقان والغضب، على رأسها السعي إلى غل يد مجلس إدارة جمعية بداية عن إدارة المشروع عبر كل المسارات القانونية والإدارية الممكنة، في اعتراف عملي بأن هذه الإدارة فقدت أي مشروعية أو ثقة لدى الملاك. بالتوازي، اتُّفق على المضي في استكمال إجراءات ترخيص البناء والحصول على شهادة استئناف الأعمال من الجهة المختصة، في محاولة لانتزاع زمام المبادرة وعدم ترك مصير المشروع رهينة لمجلس إدارة متهم بالتقاعس والتلاعب. الأخطر هو التوجه نحو فسخ التعاقد مع شركة مينا للمقاولات والتجارة وإجبارها على إعادة تسليم الأرض، مع تحريك شكاوى وبلاغات جنائية تتعلق بالكسب غير المشروع، وتربيح الغير، والإضرار بالمستهلك، والإخلال العمدي بالعقود، وهي عناوين صريحة لاحتمال وجود مخالفات جسيمة تتجاوز مجرد سوء إدارة لتقترب من شبهة الفساد المنظم.

 

بلاغات وشكاوى.. لكن إلى من؟

 

اتفاق المتضررين على رفع شكاوى إلى منظومة مجلس الوزراء، موجهة إلى رئيس مجلس الوزراء ووزيرة التضامن الاجتماعي ومحافظ الجيزة، يطرح سؤالًا بديهيًا: أين كانت كل هذه الجهات طوال سنوات تعثّر المشروع رغم سداد كامل المستحقات وصدور أحكام نهائية لصالح الحاجزين؟ إذا كان المواطن مضطرًا لأن يقاتل وحده لفرض تنفيذ حكم قضائي، فهذا يعني أن السلطة التنفيذية لا تقوم بأبسط وظائفها في إنفاذ القانون، وأن المستثمر أو الجمعية أو المقاول يشعر عمليًا بأنه فوق المساءلة. في مناخ كهذا، يتحوّل أي مشروع عقاري كبير إلى مصيدة لمدّخرات الطبقة الوسطى، التي تُدفع مقدمات وأقساطًا على مدى سنوات، ثم تُترك معلّقة بين سماوات الوعود الفارغة وأرض الواقع المتجمد، بينما تغيب الرقابة الفعلية وتتحول الوزارات والمحافظات إلى مكاتب لتسجيل الشكاوى لا لحلّها.

 

إبراهيم سعودي: معركة قانونية ضد منظومة كاملة لا ضد شركة واحدة

 

تصريحات المحامي إبراهيم سعودي، وكيل الحاجزين، بأن الاجتماع يمثل «نقطة تحول حقيقية» تعكس إدراكًا متزايدًا بأن القضية لم تعد مجرد نزاع مدني بين ملاك وشركة أو جمعية، بل معركة أوسع ضد نمط كامل من إدارة المشاريع العقارية في ظل غياب الردع والشفافية. تأكيده على أن القرارات تحولت إلى إجراءات مُلزِمة، وأن الفريق القانوني يستعد لسلسلة خطوات متتابعة لانتزاع حقوق الملاك وتنفيذ الأحكام ودفع المشروع لاستئناف التنفيذ الجاد، يعني أن الملف في طريقه للتحول إلى اختبار حقيقي لمدى استعداد دولة الانقلاب لاحترام القانون حين يكون المواطن هو الطرف الأضعف. فإذا استمر التعطيل والمماطلة رغم هذه التحركات، فسيكون ذلك دليلًا إضافيًا على أن منظومة الحكم الحالية لا ترى في المواطن سوى رقمًا يُستنزف بالضرائب والرسوم، ولا تعترف له حتى بحقه في شقة دفع ثمنها، وفي عقد قضت به المحاكم ولم تجد من ينفّذه.

 

أبراج بداية.. مرآة لزمن تُهدر فيه الحقوق بلا حساب

 

قضية أبراج بداية ليست استثناءً بل نموذجًا مكررًا في ظل مناخ اقتصادي وسياسي منحاز بالكامل للمقاول والمستثمر على حساب المتعاقد الصغير، حيث تُستخدم الجمعيات والشركات كواجهات قانونية لامتصاص الأموال، ثم الاختباء وراء البيروقراطية والبطء القضائي عند أول تعثر. في زمن الانقلاب، تحوّل السكن من حق دستوري وإنساني إلى مغامرة عالية المخاطر، يدفع ثمنها المواطن وحده بينما تتنصل السلطة من واجبها في الرقابة والحماية وإنفاذ القانون. وإذا لم يتحول نضال ملاك وحاجزي أبراج بداية إلى نموذج لمحاسبة المقصّرين وملاحقة المتربحين ومساندة الضحايا، فستتكرر المأساة في عشرات المشروعات الأخرى، ويظل سؤال العدالة معلّقًا بالتمنّي، في دولة لا ترى في شعبها سوى «زبون» لدولة الجباية، لا شريكًا في دولة قانون حقيقية.