في تطور لافت يعكس حجم الاحتقان داخل أروقة واحد من أهم المرافق الاستراتيجية في مصر، واصل عمال محطات كهرباء السد العالي وأسوان 1 و2، التابعة لشركة المحطات المائية لإنتاج الكهرباء، حراكهم الاحتجاجي لليوم الثاني على التوالي. المشهد ليلة أمس لم يكن اعتياديًا؛ حيث افترش العمال الأرض معلنين الاعتصام المفتوح والمبيت داخل المحطات، في رسالة تحذير شديدة اللهجة لإدارة الشركة والوزارة معًا، بأن "وقت المسكنات قد انتهى".
الهتافات التي شقت سكون الليل في أسوان: "عايزين حقوقنا.. واحد اتنين وزير الكهربا فين.. يا وزير الكهربا خلص وقت الطبطبة"، لم تكن مجرد مطالب فئوية، بل كانت صرخة ضد سياسات الإفقار وتجاهل الحقوق، تحولت سريعًا إلى معركة كرامة بعد إهانات وجهت لهم من رأس الهرم الإداري بالشركة، مما دفعهم لرفع سقف المطالب ليشمل إقالة القيادات.
ثورة الجياع: رواتب لا تكفي الخبز الحاف
المحرك الرئيسي لهذا الغضب هو الواقع المعيشي المزري الذي يعيشه "جنود الطاقة" في مصر. فوفقًا لشهادات العمال، تتراوح الرواتب بين 4500 و7000 جنيه، وهي أرقام باتت لا تساوي شيئًا أمام طوفان الغلاء الذي يضرب الأسواق، خاصة مع عدم تطبيق الحد الأدنى للأجور عليهم بشكل عادل.
المفارقة المؤلمة التي كشفها العمال هي أنهم بدلاً من أن يتقدموا للأمام، عادوا للخلف؛ حيث تم إلغاء امتيازات كانوا يتمتعون بها منذ عام 2015، مثل بدل المناطق النائية والعلاوات التشجيعية، مما أدى لتقليص دخولهم الحقيقية.
وقد صاغ المعتصمون قائمة مطالب محددة لإنقاذ أسرهم من العوز، شملت:
• تصحيح الأجور: التطبيق الفوري للحد الأدنى للأجور، وضم العلاوات المتأخرة.
• تحسين البدلات: زيادة بدل الغذاء إلى 50 جنيهًا يوميًا، وبدل الإنارة إلى 1000 جنيه شهريًا، ورفع البدل النقدي لتذاكر السفر، وصرف بدل مخاطر يتناسب مع طبيعة عملهم الشاق.
• عدالة التوزيع: تغيير مسمى "حافز الإنتاج" إلى "أرباح سنوية" وزيادتها لتصرف 24 شهرًا دفعة واحدة، وزيادة حافز الأداء من 250% إلى 350%، وصرف حافز التميز شهريًا.
• الحق في الصحة: تحمل الشركة لقيمة اشتراك التأمين الصحي الشامل، بدلاً من تحميلها للعامل الذي لا ينتفع أصلاً من الخدمة.
"مش هنمشي هشام يمشي".. معركة الكرامة ضد الإهانات
لم يتوقف الأمر عند المطالب المالية، بل تحول الاعتصام إلى انتفاضة للكرامة بعد التصرفات المستفزة المنسوبة لرئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب، هشام كمال محمد. ووفقًا لشهادات العمال، فقد لجأ رئيس الشركة إلى أسلوب الترهيب والإهانة بدلاً من الحوار، حيث نُقل عنه قوله للعمال: "إنتو مش رجالة ومش هتقدروا تعملوا حاجة، واللي مش عاجبه الباب يفوت جمل".
هذه العبارات كانت بمثابة الزيت الذي سُكب على النار، فارتفعت الهتافات تطالب برحيله الفوري: "مش هنمشي هشام يمشي". العمال أكدوا أن الإدارة التي تعجز عن توفير حقوق موظفيها، وتلجأ لإهانتهم عندما يطالبون بها، هي إدارة فاقدة للشرعية ولا تؤتمن على مرفق حيوي بحجم محطات كهرباء السد العالي.
فشل محاولات "التنويم" والوعود الزائفة
في محاولة لاحتواء الموقف قبل تفاقمه، هرع عدد من المسؤولين إلى مقر الاعتصام بعد منتصف الليل، بينهم رئيس قطاع كهرباء السد العالي خالد يحيى، ورئيس قطاع شؤون المحطات خالد عابدين، وعضو مجلس النواب علي أبا زيد. وحاول الوفد إقناع العمال بفض الاعتصام مقابل "وعود" بدراسة المطالب وتنفيذها.
لكن العمال، الذين خبروا سياسة التسويف والمماطلة لسنوات، رفضوا هذه الحلول "التخديرية"، متمسكين بموقفهم: "التنفيذ أولاً أو استمرار الاعتصام". هذا الرفض يعكس فجوة الثقة الهائلة بين العمال وإدارتهم، ويؤكد أن الحلول الأمنية أو الوعود الشفهية لم تعد تجدي نفعًا مع بطون خاوية.
تناقض فج: إنتاج ملياري ورواتب "ملاليم"
تأتي هذه الاحتجاجات في وقت تحتفي فيه الشركة بأرقام قياسية؛ حيث اعتمدت الجمعية العامة نتائج أعمال أظهرت توليد 16.437 مليار كيلووات/ساعة خلال العام المالي 2024-2025، بزيادة 10% عن المستهدف. هذه الأرقام تكشف حجم الظلم الواقع على العمال؛ فالشركة تحقق فوائض إنتاجية بفضل سواعدهم، بينما يُحرمون هم من ثمار هذا الجهد، ليبقى العائد في جيوب الإدارة والحكومة، والفتات للعاملين.
موجة غضب تضرب قطاع المرافق
لا يمكن فصل ما يحدث في السد العالي عن السياق العام؛ فهو جزء من موجة احتجاجات عارمة تضرب قطاع المرافق العامة في مصر. فعلى مدار الأسبوعين الماضيين، انتفض عمال شركات مياه الشرب في القاهرة والجيزة والشرقية وبني سويف والمنيا، مطالبين بحقوق مماثلة.
هذا التزامن يشير إلى خلل هيكلي في إدارة ملف الأجور بشركات المرافق المملوكة للدولة، حيث يبدو أن هناك سياسة ممنهجة لتعطيش هؤلاء العمال ماليًا، رغم أنهم يديرون أخطر ملفين في حياة المصريين: المياه والكهرباء.
الخلاصة:اعتصام عمال السد العالي ليس مجرد حدث عابر، بل هو جرس إنذار خطير من قلب الجنوب. استمرار تجاهل هذه المطالب، ومقابلة الحقوق بالإهانات، قد يؤدي إلى ما لا يحمد عقباه في قطاع لا يحتمل التوقف ولو للحظة واحدة. العمال قالوا كلمتهم: لن نرحل حتى نأخذ حقوقنا، والكرة الآن في ملعب وزارة الكهرباء التي يبدو أن "وقت الطبطبة" قد انتهى بالفعل بالنسبة لها، وبدأ وقت الحساب.

