في فضيحة اقتصادية جديدة تكشف حجم الفشل الحكومي في إدارة ملف الطاقة، قفزت فاتورة واردات الغاز المسال إلى مستويات كارثية بلغت 7.2 مليار دولار خلال عشرة أشهر فقط، مقابل 3.85 مليار دولار في الفترة نفسها من العام الماضي، بزيادة مذهلة بلغت 87%. هذا النزيف الدولاري الذي تتحمله الخزانة العامة يأتي نتيجة سياسات فاشلة وإدارة كارثية حولت مصر من مُصدّر للغاز إلى مستورد صافٍ يستنزف احتياطي النقد الأجنبي في صفقات استيراد كان يمكن تجنبها.
الأرقام تفضح حجم الكارثة: قفزت عدد شحنات الغاز المستوردة إلى 18 شحنة شهرياً في ذروة الصيف، مقابل 5 إلى 7 شحنات فقط صيف 2024. هذه القفزة المجنونة في الاستيراد تعكس عجز الحكومة عن التخطيط السليم وفشلها في الحفاظ على معدلات إنتاج الغاز المحلي الذي انهار إلى 4.2 مليار قدم مكعبة يومياً، بينما يبتلع الاستهلاك حوالي 6.8 مليار قدم مكعبة يومياً.
الصيف الأسود وتكلفته الباهظة
استحوذ الربع الثالث من العام - فترة الصيف - على النسبة الأكبر من فاتورة النزيف، حيث بلغت قيمة الواردات وحدها 2.89 مليار دولار، مقابل 1.4 إلى 1.6 مليار دولار في الربع الثاني. هذه الأرقام الكارثية جاءت بالتزامن مع معاناة المواطنين من انقطاعات كهربائية متكررة على مدار الصيف، في مفارقة صادمة تكشف أن الحكومة تدفع مليارات الدولارات لاستيراد الغاز بينما المواطن البسيط يعاني في الظلام.
سجلت واردات أغسطس وحده مستوى قياسياً بلغ 1.27 مليون طن، يليه سبتمبر بـ1.04 مليون طن، في إشارة واضحة إلى حالة الطوارئ التي وصلت إليها البلاد. بل إن واردات التسعة أشهر الأولى من 2025 قفزت إلى 5.71 مليون طن مقابل 1.42 مليون طن في نفس الفترة من العام الماضي، بزيادة تتجاوز 300%، في انهيار غير مسبوق لقطاع كان يُعتبر عماد الاقتصاد المصري.
من "مُصدّر إقليمي" إلى مستورد يتسول الشحنات
الفضيحة الأكبر تكمن في التحول الدراماتيكي لمصر من دولة كانت تخطط لتصبح مُصدّراً رئيسياً للغاز بعد اكتشاف حقل ظهر عام 2015، إلى مستورد صافٍ يتسول شحنات الغاز من أمريكا وترينيداد وتوباغو وغينيا الاستوائية وحتى إسبانيا. قفزت واردات مصر من الغاز الأمريكي وحده بنسبة 400% لتصل إلى 290.5 مليار قدم مكعبة خلال تسعة أشهر، حتى أصبحت مصر ثالث أكبر مستورد للغاز الأمريكي عالمياً.
هذا الانهيار لم يأت من فراغ، بل نتيجة تراجع الإنتاج المحلي منذ عام 2021 ليصل في 2024 إلى أدنى مستوى له في 6 سنوات. الحكومة التي أنتجت 81% من احتياجات الكهرباء عام 2023 تراجعت إلى 76.8% عام 2024، ثم انهارت تماماً لتتحول إلى مستورد صافٍ يستنزف موارد الدولة في صفقات خارجية باهظة.
فجوة قاتلة وحلول ترقيعية
الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك وصلت إلى مستويات خطيرة تتراوح بين 35% و40%، وبدلاً من معالجة الأسباب الجذرية، لجأت الحكومة إلى حلول ترقيعية بالتعاقد على 5 سفن تغييز لرفع قدرة الاستيراد. استحوذت محطات الكهرباء وحدها على 70% من إجمالي واردات البلاد من الغاز، بينما تضررت القطاعات الصناعية والإنتاجية التي تحتاج الطاقة لتشغيل مصانعها.
رفعت الحكومة قدرتها على إعادة التغويز إلى 2.77 مليار قدم مكعبة يومياً بعد إضافة وحدة عائمة رابعة، وتستعمل سفينة خامسة بالمشاركة مع الأردن وقت الطوارئ. لكن هذه الحلول المؤقتة لا تعالج جوهر المشكلة: انهيار الإنتاج المحلي وغياب رؤية استراتيجية طويلة المدى.
نزيف دولاري يُثقل كاهل الموازنة
أصبح الغاز المستورد مصدراً كبيراً للنفقات في الموازنة العامة، في وقت تعاني فيه البلاد من أزمة اقتصادية خانقة وعجز مزمن في النقد الأجنبي. الـ7.2 مليار دولار المدفوعة خلال عشرة أشهر فقط كان يمكن توجيهها لتطوير البنية التحتية أو دعم القطاعات الإنتاجية أو تحسين الخدمات الصحية والتعليمية، لكن سوء الإدارة حوّلها إلى فاتورة استيراد ثقيلة تنزف احتياطيات الدولة.
رغم محاولات الحكومة تجميل الصورة بالحديث عن خطط لزيادة الصادرات خلال الأشهر المقبلة، والحوافز المقدمة للشركات الأجنبية لتصدير جزء من إنتاجها، إلا أن الواقع يشير إلى أن مصر لا تزال بعيدة عن العودة كمُصدّر صافٍ للغاز. التصدير المتواضع الذي تم في سبتمبر وأكتوبر بكميات لا تتجاوز 70 ألف طن للشحنة لا يُقارن بالكميات الهائلة المستوردة شهرياً التي تصل إلى 1.27 مليون طن.
فشل يدفع ثمنه المواطن
الحقيقة المرة أن هذه الكارثة هي نتيجة مباشرة لسياسات فاشلة وغياب التخطيط الاستراتيجي وإهمال الاستثمار في زيادة الإنتاج المحلي.
المواطن المصري يدفع الثمن مرتين: مرة من خلال انقطاعات الكهرباء المتكررة التي شلت الحياة خلال الصيف، ومرة أخرى من خلال النزيف الدولاري الذي يُثقل كاهل الاقتصاد ويؤثر على كل الخدمات الأساسية.
والسؤال الذي يطرح نفسه: متى ستتحمل الحكومة مسؤولية هذا الفشل الفاضح؟ ومتى سيتوقف نزيف المليارات في صفقات استيراد كان يمكن تجنبها بإدارة رشيدة وتخطيط سليم؟

