عندما يخرج أحد أبرز خبراء الاقتصاد في مصر، والذي كان جزءًا من النظام الحالي في بواكيره، ليدلي بشهادته حول الوضع المتردي للاقتصاد المصري، وما له من آثار كارثية على المواطن، فإن تصريحه يكون له أصداء أقوى من غيره، ويعكس سياسة التخبط الراهنة في ظل حكم "الفرد الواحد"، الذي لايؤمن برأي ولا يحترم مشورة.
ما صرح به الدكتور زباد بهاء الدين، الذي شغل منصب نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية ووزير التعاون الدولي في مرحلة ما بعد الانقلاب حتى 30 ديسمبر 2013، يعد توصيفًا دقيقًا للاقتصاد المصري الذي عانى من تدهور لا مثيل له خلال السنوات الأخيرة، في ظل اللجوء إلى الاقتراض من الحكومات ومؤسسات التمويل الدولي، والتوسع في مشاريع لا تمثل أولوية قصوى في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ مصر.
سياسات غير صائبة
فعلى الرغم من إقراره بالظروف بالغة الصعوبة التي عانت منها مصر في السنوات الست الماضية، إلا أن بهاء الدين في مقابلته مع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) انتقد صراحة السياسات الحكومية التي تم تطبيقها، والتي لم تكن في نظره موفقة وكبدت الدولة ثمنًا كبيرًا.
فضلاً عما يرصده من الفجوة بين الأرقام الرسمية التي تؤكد تحسن الاقتصاد والواقع الذي يعيشه المواطن، مما يستدعي من وجهة نظره تغييرًا في السياسات الاقتصادية، إذ "أن هناك تحسنًا في الأرقام العامة للاقتصاد وفي الوقت نفسه لا يوجد شعور لدى المواطنين بالتحسن في وضعهم المعيشي اليومي".
هذه الفجوة الكبيرة، كما يقول بهاء الدين "بحاجة إلى تغيير كبير بما في ذلك في السياسات الاقتصادية"، مشددًا على ضرورة أن يصل التحسن إلى المواطن، وأن يكون الإصلاح يكون عميقًا وجذريًّا وليس مجرد إعادة إنتاج ذات السياسات وإن كانت بوجه آخر. ورأى أن المطلوب في هذه المرحلة أن يكون هناك تغيير حقيقي في مسار إصلاح الاقتصاد الهيكلي.
كوارث السياسة الاقتصادية
وقد أبرز العديد من الخبراء، مساوئ السياسة الاقتصادية التي ينتهجها السيسي، والتي أفضت إلى كوارث حقيقية على الوطن والمواطن معًا، وأدت إلى وصول الدين الخارجي إلى أرقام لا مثيل لها بعد أن قفز إلى أكثر من 160 مليار دولار، حتى بات إجمالي الناتج القومي يستخدم في سداد فوائد تلك الديون، وهو ما يكشف إلى أي مدى حجم الكارثة التي تسببب فيها غياب الحكم الرشيد، وعدم الاعتماد على أهل المشورة والاختصاص في تطبيق السياسات الاقتصادية.
من ذلك ما رصدته دراسة للمعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية (ISPI)، حول كيف استغل النظام الدولة بتهور لتمويل أنشطته الاقتصادية وتعزيز سلطته، من خلال التعاقد مع شركات التأجير التمويلي لبناء مشاريع الإسكان ومحطات تحلية المياه والطرق والكباري والقصور الرئاسية والعاصمة الإدارية الجديدة، وهي مشاريع قالت إنها بعضها كان ضروريًا والبعض الآخر غير ضروري.
من بين المشاريع التي يستحيل تبريرها والتي سعى النظام إلى تنفيذها بناء أطول برج في إفريقيا في وسط الصحراء، وأطول خط سكة حديد عبر الصحراء، بدلاً من السماح للشركات الخاصة بالتنافس بشكل عادل على عقود الدولة، حيث غالبًا ما كانت شركات التأجير التمويلي تتعاقد من الباطن مع شركات خاصة.
في المقابل، استمرت معدلات الفقر في الازدياد، وتراجعت مشاركة القوى العاملة، ونقص تمويل الرعاية الصحية والتعليم، بالإضافة إلى الانكماش الذي يبدو لا نهاية له في القطاع الخاص المصري غير النفطي والغازي.
فيما حافظت قدرة مصر على الاقتراض على قوتها بفضل صندوق النقد الدولي، وقروض ضعيفة الشروط، وضمانات قروض ثنائية عززت اهتمام الشركات الأجنبية، ومبيعات أسلحة، وكلها عوامل شجعت المستثمرين من القطاع الخاص على شراء الديون السيادية.
ولتحسين الوضع، دفعت مصر في عام 2021 أعلى أسعار فائدة حقيقية في العالم على ديونها لضمان استمرار تدفقات الدولار اللازمة لتغذية الإنفاق وإعادة تمويل الديون القائمة؛ فيما استمرت إيرادات الدولة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في الانخفاض.
وتفاخر رئيس البنك المركزي المصري في عام 2021، طارق عامر، بأنه على عكس معظم دول العالم، حمت مصر الجنيه من الانخفاض (على الرغم من ادعائها بتعويمه) وحافظت على أسعار فائدة مرتفعة لمواصلة جذب مشتري أذون الخزانة الخاصة بها.
خروج 20 مليار دولار من الأموال الساخنة من مصر
ولكن بحلول نهاية عام 2021، ومع ارتفاع أسعار الفائدة الوشيك في مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي، بدأ بعض مديري الصناديق يشعرون بأن بيت الورق قد ينهار، وبدأوا في تقليل تعرضهم لديون مصر.
عندما غزت روسيا أوكرانيا وارتفعت أسعار السلع الأساسية ، كان البيع هائلاً. خرج 20 مليار دولار من الأموال الساخنة من مصر في غضون أسابيع. ولمنع الانهيار التام، تعهدت دول الخليج بإيداع 22 مليار دولار في البنك المركزي المصري لدعم الاحتياطيات.
وحاول المسؤولون في مصر إلقاء اللوم على جائحة كوفيد-19 وحرب روسيا على أوكرانيا في الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد. لكن حتى قبل حدوث الجائحة واندلاع الحرب، كشفت التدفقات الخارجة عن مدى هشاشة الاقتصاد الذي بناه السيسي. في عام 2019، فشل الاقتصاد المصري في تعزيز النمو الشامل، ونمو القطاع الخاص، وخلق فرص العمل، وذلك بسبب ارتفاع معدلات الفقر، وتراجع مشاركة القوى العاملة، وانكماش القطاع الخاص.
برنامج صندوق النقد الدولي
لتجنب التخلف عن السداد والحفاظ على ما تبقى من الدولارات القليلة، قيدت الحكومة الوصول إلى العملة الصعبة للواردات، مما أدى إلى خنق النشاط الاقتصادي والاستثمار. بعد مفاوضات مطولة في عام 2022، توصلت أخيرًا إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي بشأن برنامج جديد. بلغت قيمته 3 مليارات دولار فقط على مدى 46 شهرًا، ولكنه جاء، ولأول مرة، مصحوبًا بمحاولات جادة لمعالجة هيمنة النظام على الاقتصاد واستغلاله الجشع لأموال الدولة.
دعا برنامج صندوق النقد الدولي إلى شفافية غير مسبوقة في الشؤون المالية لجميع شركات القطاع العام، بما فيها تلك المملوكة للجيش. ووافقت الحكومة على ضمان أن تكون جميع المناقصات العامة التي تتجاوز قيمة معينة تنافسية وشفافة، لتجنب التعاقد المباشر على حقوق الملكية.
كما ألزمت الدولة بتقديم تقارير منتظمة عن تكلفة دعم هذه الشركات. ولا تُلزم الشركات العسكرية بدفع معظم الضرائب، أو ضريبة القيمة المضافة، أو الرسوم الجمركية، بل إنها تستعين بالمجندين الذين تمولهم الدولة في بعض أعمالها.
علاوة على ذلك، وكجزء من البيع المخطط لأصول الدولة للمساعدة في سد الفجوة التمويلية للبلاد، تعهدت الحكومة بأن عائدات جميع مبيعات الأصول ستذهب إلى حساب مخصص في البنك المركزي المصري.
وقد تم تصميم هذا الشرط لمنع الجيش من الاحتفاظ بعائدات مبيعات أصوله، مما من شأنه أن يقوض أي فائدة لخزائن الدولة. وقبل توقيع الاتفاقية، نشرت الحكومة سياسة ملكية الدولة، والتي تهدف إلى تحديد خطط لتقليل البصمة الاقتصادية للقطاع العام، بما في ذلك الجيش.
وقد فشلت الحكومة إلى حد كبير في الامتثال لروح أو نص هذه الالتزامات، وهو ما انعكس في رفض صندوق النقد الدولي إجراء مراجعة للبرنامج وصرف شرائح إضافية من القرض.
اقتصاد الجيش
على العكس من ذلك، وبالإضافة إلى استمرار الغموض المالي، يواصل النفوذ الاقتصادي للجيش نموه. فمنذ توقيع الاتفاقية مع صندوق النقد الدولي، استحوذ الجيش على منتجع في العين السخنة، وحصص في مصانع الصلب ، وسيطر على حديقة حيوان الجيزة، وحصة 20 بالمائة في شركة طاقة، وهي شركة تسعى لشراء محطات وقود "وطنية" التابعة للجيش.
وكشف برنامج صندوق النقد الدولي أيضًا عن التكلفة الجيوسياسية لسياسات السيسي. اعتمد التمويل الإضافي البالغ 14 مليار دولار الذي توقع الصندوق تحفيزه من خلال الاتفاقية بشكل كبير على بيع الأصول العامة للمشترين الأجانب، في ظل التعهدات الوحيدة من القوى الإقليمية في الخليج، وأبرزها السعودية والإمارات.
على الرغم من كل هذا، لا يزال هناك أي مؤشر من داخل السلطة الحالية في مصر على أن الطريقة التي أشرفت بها على البلاد واقتصادها كانت معيبة أو بحاجة إلى تغيير جوهري. وأنها لم تنفذ حتى الإصلاحات التي وافقت عليها، مما يؤدي إلى قلق أكبر، وهو أن الأسوأ لم يأتِ بعد. بعد عقد من السياسات الاقتصادية الكارثية في خدمة السلطة التي أفقرت ملايين المصريين وأثارت مخاوف جدية من التخلف عن السداد، يبدو السيسي غير راغب أو غير قادر على الإصلاح

