بات أمرًا مستحيلاً، لمن يستقرئ التاريخ، ويقرأ الواقع، على الرغم من كل الممارسات، التي لا تزال مستمرة.. وما سقوط الاتحاد السوفيتي بأيدلوجياته وفلسفاته، وعودة الإنسان إلى فطرته، التي فطره الله عليها، إلا دليل على أنه لا إنسان بلا دين.
فإذا كانت محاولات إلغاء الدين قد أخفقت، وباءت بالفشل، فلا بد من التحول إلى صناعة لون من التدين، يشبع نزوع الناس، ويخدرهم، ويشيع بينهم نوعا من الاطمئنان الكاذب، دون أن يكون له أي أثر تغييري، أو إيجابي، في حياة الناس، وتقويم سلوكهم بشرع الله..
وفي ضوء ذلك، يمكن أن نفسر تطور الطروحات العلمانية ، التي كانت تقوم على مناقضة الدين وإلغائه أصلا، فتحولت اليوم إلى دعوة لتحييده، وإبعاده عن حكم المجتمع وجعله شأنا شخصيا، وليس لإلغائه.
العلمانية الجديدة وتحييد الدين
ولعل من الصور الخطيرة، والبدع الفكرية، التي بدأت تتسلل إلى العقل المسلم، تحت شعارات وعناوين براقة- ولكل بدعة بريقها الخادع- لتخرجه من الساحة، ولتطفئ فاعليته، وتفرغها في أوعية نظرية، بعيدة عن هـموم الناس، ومعالجة مشكلات الأمة، واستشعار المسئولية، محاولات إدخال المسلم بدهاليز الفلسفة الفكرية والنظريات المعرفية، تحت عناوين: إصلاح مناهج الفكر!
وهي في الحقيقة إفساد للفكر ومناهجه، على حساب مشكلات الأمة الحقيقة والملحة.. إنه الهروب من مقتضيات العقيدة وتبعاتها، إلى دهاليز الفلسفة وغيبوبتها وبرودها، والتحلل من كل الضوابط الشرعية، واحتضان كل أصحاب الأفكار الشاذة، وتمكينهم من المنابر الإسلامية، لاغتيال العمل الإسلامي الجاد.
قضية تطبيق الشريعة الإسلامية
وقضية أخرى، يمكن أن تقع في الصميم من هـموم الناس، ومشكلاتهم، وقضاياهم، وتقويم مسالكهم بشرع الله، وهي قضية تطبيق الشريعة الإسلامية، أو الدعوة إلى تطبيق الشريعة، والجدل الكلامي، الذي يدور حول ذلك، واللجان المشكلة، من سنوات، لتحضير المجتمع، لتطبيق الشريعة الإسلامية، وإشفاق بعض الكتاب (الإسلاميين!) - إن صح التعبير- على دعاة تطبيق الشريعة، وحزنهم على عقولهم الساذجة، الداعية لذلك، واتهامهم بأنهم يمتلكون الدين، ويفتقدون العقل، ووصمهم بقلة الفقه، والعجز عن فهم الواقع، والدراية بتعقيداته ومشكلاته المعقدة، وأن المجتمع لما يهيأ بعد لتطبيق الشريعة الإسلامية، وأن الناس ما يزالون في حاجة لما يهيأ بعد لتطبيق الشريعة الإسلامية، وأن الناس ما يزالون في حاجة وعوز، وخوف واضطراب، فكيف يطبق عليهم حد السرقة، وغير ذلك؟!
وكأن الاجتهاد في العدول عن تطبيق الحد، في حالة الشدة، أمر خارج عن التطبيق الشرعي، والدعوة إلى التأني، وتحضير المجتمع، والتدرج، الذي أصبح يعني الوضع في الأدراج!!
ولا أدري من أين دخلت علينا هـذه المفهومات؟!
الشريعة تربية وبناء قبل أن تكون حدودًا
فالعدول عن تطبيق الحدود، لوجود المجاعة، وتطبيقها في حالة الكفاية، هـو تطيق للشريعة أيضا، وليس أمرا آخر، وكأن الشريعة في نظر هـؤلاء الكتاب (الإسلاميين!) لا تساهم ببناء المجتمع الإسلامي وإقامته، وتقويم مسالكه بشرع الله، أو كأن تطبيق الشريعة لا علاقة له بتربية المجتمع، على القيم الإسلامية، والمساهمة بضبط مسيرته، ومعالجة مشكلاته!!
وما قيمة التشريعات الإسلامية، إذا لم تساهم بارتقاء المجتمع، وإقامته، وبقيت معطلة محنطة، حتى نقيم المجتمع المؤهل، وفي ضوء أية تربية وشريعة نؤهل المجتمع، حتى يصبح قابلا لتطبيق الشريعة، ثم نطلب من الشريعة الإسلامية، أن تشرف لاستلام المجتمع، الذي أصبح كل شيء فيه جاهزا؟ ولا أدري، ما هـي مقومات تجهيز المجتمع، وتأهيله بعيدا عن إقامة شرع الله؟!
أثر إقصاء الشريعة على المجتمع
ولا أرى نفسي بحاجة إلى إيراد النصوص الشرعية- وما أكثرها- التي تبين البعد النفسي، والأمني، والتربوي، والاجتماعي، والسياسي، لتطبيق الشريعة، واستنقاذ الناس من معاناتهم، وما يقع عليهم من ظلم القوانين الجائزة، التي تكرس البعد عن الإسلام، ولا تسهم بتحضير المجتمع لتطبيق الشريعة، ويكفي الإشارة إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي أكد فيه أن: ( إقامة حد من حدود الله، خير من مطر أربعين ليلة في بلاد الله ) (رواه ابن ماجه عن ابن عمر)
لذلك أرى بأن المشكلات تزداد تفاقما، والمجتمع يزداد ابتعادا، وجنوحا، واستيلابا، كلما أقصيت الشريعة الإسلامية، أو تأخر تطبيقها، لأنها تساهم في إقامة المجتمع الإسلامي، وحمايته في الوقت نفسه، وعلى الأخص إذا عرفنا أن الشريعة لا تعني فقط العقوبات، من حدود وتعزيرات، على الرغم من الدور التربوي والبنائي، الذي لا يمكن إنكاره لهذه العقوبات، وإنما تعني شريعة الله الشاملة لحياة الفرد والمجتمع، والتعامل معه من خلال الحالة والاستطاعة التي هـي عليها.
ازدواجية الموقف من الشريعة
ولا أدري من حيث النتيجة، ما الفرق بين من يقول: بأن الشريعة الإسلامية إنما جاءت لمعالجة مشكلات عصر ماض، وأنها لا تصلح للمجتمعات المعاصرة، بعد أن تطورت، وتعقدت مشكلاتها، وبين من يقول: بأن المجتمعات المعاصرة، بعد أن تطورت، وتعقدت مشكلاتها، لا تصلح لتطبيق الشريعة، إلا بعد إعادة التأهيل والتحضير؟
إذا كان الفرق أن بعض هـذه الأصوات تخرج من الداخل الإسلامي، وبعضها الآخر يأتي من الخارج الإسلامي، ليؤدي النتيجة نفسها، بحيث يلغى الإسلام، بشتى المعاذير، ويعمل على إخراجه من الحواضر إلى المقابر.
تحييد الدين والتطبيق العلماني
إن إقصاء الشريعة عن واقع الحياة، ومعالجة هـموم الناس، هـو – كما أسلفنا – تحييد للدين، ليصبح شأنا فرديا، بعيدا عن حكم الواقع، ووقوع في التطبيق العلماني، الذي نتنكر له نظريا، ونمارسه عمليا، حيث نكتفي بالمساحات البسيطة على هـوامش المجتمع، ويملك غيرنا قيادة المجتمع.
مقولة (خذوا الإسلام جملة أو دعوه)
أما مقولة: (خذوا الإسلام جملة، أو دعوه) ، فلنا معها وقفة بسيطة، بما يتسع له المقام هـنا، وهي أنه ما لا شك فيه، أن الذي ينكر شيئا من الدين، مما توافرت له شروط وضوابط النقل الصحيح، يعتبر كافرا بالدين كله،
قال تعالى: ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ) (البقرة:85)
وقال تعالى: ( واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون * أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) (المائدة:49-50)
وقال تعالى: ( وتؤمنون بالكتاب كله ) (آل عمران:119)
وقال تعالى: ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) ( الأنفال:39)
خاتمة
فمقولة: (خذوا الإسلام جملة، أو دعوه) إذن هـي صحيحة، ودقيقة، على مستوى الإيمان والتصور، وشمولية الرؤية، التي لا بد أن يتوفر عليها المسلم، حتى ولو لم يمتلك الاستطاعة، التي تمكنه من القيام بالتكاليف كلها، في مرحلة أو مراحل من حياته؛ لأن المسلم متعبد باستطاعته،
قال تعالى : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) (التغابن:16).
لذلك نرى أن التزام هـذه المقولة بإطلاق، في المجال التطبيقي، يناقض استطاعة الإنسان، ويكلفه بما لا يطيق، ويناقض السنن الاجتماعية في التدرج في البناء، ويناقض مسيرة المنهج النبوي، ووضع لبناته، حتى الوصول إلى مرحلة الاكتمال والكمال..
لكن الذي نريد قوله: إننا ونحن نعيد البناء، في ضوء الظروف المحيطة، والإمكانات المتاحة، لا بد لنا باستمرار من استصحاب الرؤية الشاملة، ومرحلة الكمال المراد بلوغها، وعدم اعتبار ما نحن عليه، يمثل الحالة النهائية المطلوبة، ووقعنا بتقطيع الصورة الإسلامية، وتبعيضها، كما فعل أهل الكتاب، وقد حذرنا الله من الوقوع في علل تدينهم.

