أظهرت بيانات حكومية ارتفاعًا غير مسبوق في مشتريات الأجانب للعقارات داخل مصر خلال العامين الماضيين، بإجمالي 3.19  مليار دولار (151.78 مليار جنيه)، بالتزامن مع توسّع مشروعات التنمية العمرانية والسياحية في الساحل الشمالي الغربي والبحر الأحمر والعاصمة الإدارية ومناطق التمدد العمراني شرقًا وغربًا.

 

وبحسب ميزان المدفوعات الصادر عن البنك المركزي المصري الأسبوع الماضي، قفزت مشتريات الأجانب للعقارات بنسبة 47.5% خلال العام المالي 2024/2025  لتسجل 1.9  مليار دولار، مقارنة بـ 1.29 مليار دولار في العام المالي السابق 2023/2024.

 

ويرى خبراء أن هذه الطفرة تمثل مصدرًا مهمًا لجذب العملة الصعبة ودعم ميزان المدفوعات، خصوصًا إذا ما قورنت بالمبيعات المحدودة في الأعوام السابقة؛ إذ لم تتجاوز 550  مليون دولار في 2022/2023، و970 مليون دولار فقط في 2021/2022، وهو ما يعكس تصاعد اهتمام المستثمرين الأجانب بالسوق العقاري المصري.

 

وتدعم هذه المؤشرات نتائج تقرير شركة "نايت فرانك" العالمية للاستشارات العقارية بعنوان Destination Egypt، الذي رصد اهتمامًا متزايدًا لدى أثرياء خمس دول هي: ألمانيا، وبريطانيا، والإمارات، والسعودية، والولايات المتحدة، بالاستثمار في العقارات المصرية. وكشف التقرير عن خطط لاستثمار 1.1 مليار دولار في شراء مساكن ثانية بمصر خلال 2025، فيما أظهر استطلاع للرأي نشر في 30 سبتمبر الماضي أن 17% من أثرياء تلك الدول يعتزمون الشراء في 2026، بينما 20% يخططون لاتخاذ قرار الشراء خلال العامين أو الثلاثة المقبلة.

 

وتُعد مصر حاليًا ثالث أكبر سوق للبناء في الشرق الأوسط، بقيمة عقود تتجاوز 120 مليار دولار، ومشروعات قيد التنفيذ تقترب من 565.5 مليار دولار، بينما تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن القطاع العقاري – الذي ترتبط به نحو 80  صناعة يستحوذ على ربع الناتج القومي تقريبًا.

 

ورغم هذه الطفرة، لم تفصح بيانات البنك المركزي عن جنسيات المشترين الجدد، وهو ما أثار تساؤلات لدى بعض الخبراء، ومنهم الخبير الاقتصادي عبدالنبي عبدالمطلب الذي تساءل: "من هم الأجانب الذين يشترون العقارات في مصر؟"، وسط مخاوف تتعلق بطبيعة هذه التدفقات والجهات المستفيدة منها.

 

غياب الشفافية وضعف إتاحة البيانات

 

يواصل خبراء ورجال أعمال مصريون انتقاد غياب الشفافية وصعوبة الوصول إلى المعلومات الاقتصادية، في ظل حلول مصر في مرتبة متأخرة على مؤشر الشفافية ومدركات الفساد (130 من أصل 180 دولة).

ويشير الباحث حسن بربري إلى أن السلطات لا تنشر البيانات الرسمية بشكل دوري، وتفرض رسومًا مرتفعة على الاطلاع عليها، فيما ينتقد الباحث إلهامي الميرغني عدم إتاحة أرقام وبيانات القطاع العقاري والاقتصادي، حتى لدى أجهزة حكومية كالجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.

 

من يشتري؟ ولماذا لا تُعلن الجنسيات؟

 

أوضح الخبير الاقتصادي عبدالنبي عبدالمطلب أن "المعلومات موجودة بالضرورة، فلا قطعة أرض أو عقار أو حتى سيارة تُباع دون توثيق بيانات المالك". لكنه شدد على أهمية الإفصاح عن جنسيات المشترين، ليس فقط لمعرفة حجم الاستثمارات، بل لطبيعتها أيضًا. وأضاف أن الأرقام المعلنة ربما لا تُعد كبيرة إذا كانت تخص القصور والفيلات والوحدات الفاخرة، لكنها تصبح ذات دلالة أكبر لو تعلق الأمر بعقارات سكنية متوسطة تتراوح أسعارها بين 100 و200 ألف دولار، وفقًا لـ"عربي 21"، وحسب قوله، فإن الجمهور يحتاج إلى معرفة:

 

هل العقارات المبيعة للوحدات المصيفية أم المشروعات العمرانية الجديدة؟

 

وهل هي بغرض الاستثمار أم الإقامة الدائمة؟

 

تمليك بلا سقف وجنسية مقابل العقار

 

ورغم تأكيد عبدالمطلب أنه لا يرى خطورة مباشرة في تملك الأجانب للعقارات داخل مصر، إلا أنه لفت إلى ضرورة توضيح الصورة "خاصة في ظل السياق الإقليمي الحالي". وذكّر بطرح سابق تناول إمكانية منح الجنسية المصرية مقابل شراء عقار بقيمة 300 ألف دولار، معتبرًا أن مسألة الجنسيات تحتاج لمزيد من الوضوح والتدقيق.
 

وفي ختام حديثه، أشار عبدالمطلب إلى أن بيع الوحدات للأجانب يحمل جانبًا إيجابيًا يتمثل في تدفق العملة الصعبة للأسواق المصرية، لكنه عاد للتأكيد أن الشفافية والإفصاح أمران جوهريان لتبديد المخاوف وطمأنة الرأي العام حول هوية المشترين والغرض من تملكهم.

 

في إطار مساعي الحكومة لجذب تدفقات دولارية وتسويق العقار المصري خارجيًا، أقرت القاهرة حزمة تشريعات تسمح للأجانب بتملك العقارات مع حق التسجيل الكامل، والحصول على الإقامة الدائمة أو حتى الجنسية مقابل الشراء.

 

وفي مايو 2023، أُتيح للأجنبي التملك دون حد أقصى بشرط السداد بالعملة الصعبة، بعد قرار سابق يتيح منح الجنسية مقابل شراء عقار بقيمة 300 ألف دولار. كما اشترطت مصلحة الشهر العقاري تحويل القيمة من الخارج مباشرة لتسجيل الملكية.

 

مخاوف من غسيل أموال واقتناء مواقع استراتيجية

 

ويربط محللون بين موجة تدفق الأموال الأجنبية لشراء العقارات ومنح الإقامة والجنسية، وبين مخاطر غسل الأموال وتحركات رأسمال مجهول المصدر، فضلًا عن التخوف من انتقال ملكيات حساسة قرب الحدود أو المنشآت الاستراتيجية بما يمس الأمن القومي.


ورغم أن تملك الأجانب للعقار معمول به في دول الشرق الأوسط وأوروبا، مثل الإمارات والسعودية وقطر وتركيا، فإن تلك الدول تفرض قيودًا صارمة لحماية أراضيها، سواء بتحديد المناطق المسموح بها أو سقف المساحات، أو حظر الشراء في المواقع الحساسة، كما فعلت بريطانيا بتشديد الرقابة على الشراء عبر كيانات "أوفشور".

 

طفرة بناء هائلة تستقطب المشترين الخليجيين

 

وبالرغم من غياب أي بيانات رسمية تحدد جنسيات المشترين في مصر، إلا أن المؤشرات تشير إلى أن السعوديين والإماراتيين والكويتيين هم الأكثر نشاطًا، مدفوعين بانخفاض قيمة الجنيه واتساع حركة التطوير العمراني.

 

وتستحوذ العاصمة الإدارية الجديدة على النصيب الأكبر من الاستثمارات الأجنبية في الفخامة العمرانية، بتكلفة إجمالية تصل إلى 45 مليار دولار، يتصدرها حي المال والأعمال واستثمارات الأبراج والنهر الأخضر.

 

وخلال الأعوام الأخيرة، أصبح الساحل الشمالي الغربي مركزًا للمشروعات العقارية الفاخرة ذات الطلب العربي، حيث تجاوزت مبيعات النصف الأول من 2024 نحو 331  مليار جنيه لأكبر 10 مطورين. وتعد صفقة "رأس الحكمة" مع الصندوق السيادي الإماراتي (ADQ)، الأكبر بقيمة 35  مليار دولار لبناء مدينة ساحلية على مساحة 40.600 فدان.

 

وتبرز القاهرة الجديدة ومدينتي والرحاب شرق العاصمة باعتبارها محورًا رئيسيًا للإسكان الراقي والمقار التجارية، إضافة إلى مشروعات مثل "سيتي جيت" و"ميفيدا".

 

وفي الغرب، تتقدم 6  أكتوبر والشيخ زايد كمراكز سكنية للنخبة، مع مشروعات عملاقة آخرها "جريان" التي يمر بها فرع جديد من النيل على مساحة 6.8 مليون متر مربع.
وفي موازاة ذلك، يشهد الساحل الغربي للبحر الأحمر طفرة مماثلة، كان أحدثها مشروع "مراسي ريد" باستثمارات تبلغ 900 مليار جنيه.

 

خريطة الاستثمارات الأجنبية: من يشتري العقار المصري؟

 

يؤكد الخبير المصري في تحليل البيانات وقياس الرأي العام مصطفى خضري أن تحليلات "المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام (تكامل مصر)"، والمستندة إلى دراسة كبرى الصفقات وهياكل الملكية وتقارير السوق الدولية، تكشف عن وجود فئتين رئيسيتين من المشترين الأجانب في سوق العقار المصري.

 

الفئة الأولى: المستثمرون الاستراتيجيون (اللاعبون الكبار)

ويوضح خضري أن هذه الفئة تضم الكيانات السيادية ورؤوس الأموال الضخمة التي تركز على شراء شركات كاملة أو تطوير مشاريع ومدن متكاملة، وتمثل 94% إلى 96% من إجمالي مشتريات الأجانب خلال عامي 2023 و2024.

 

وتأتي الجنسيات الخليجية في الصدارة، وبالأخص:

 

"الفئة الأولى هم: المستثمرون الاستراتيجيون (أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة)"، مبينا أنها "الفئة الأكثر تأثيرا بالسوق، حيث تستثمر مبالغ طائلة لاستحواذ على شركات كاملة أو لتطوير مشاريع عملاقة"، و "تُمثل مشتريات هذه الفئة ما بين 94 بالمئة إلى 96 بالمئة من إجمالي مشتريات الأجانب عامي 2023 و2024، وتتركز جنسياتهم بشكل أساسي بالخليج العربي، وخاصة الإمارات والكويت وقطر والسعودية"، بحسب رئيس "تكامل مصر".

 

ويلفت إلى أن "الإمارات القوة الاستثمارية الأبرز، وتمثلها كيانات سيادية كصندوق (ADQ القابضة) وشركات مثل (الدار) و(إعمار)، ولا تركز هذه الكيانات على شراء الوحدات الفردية، بل تستحوذ على شركات بأكملها مثل (سوديك) أو تقوم بتطوير مدن متكاملة (كمشروع رأس الحكمة)، وتمثل مشترياتها ما بين 62 إلى 65 بالمئة من إجمالي مشتريات الأجانب".

 

ويشير إلى "الكويت، والتي تمثلها عائلات استثمارية كـ(الخرافي)، التي تمتلك حصصا مؤثرة بشركات بينها (بالم هيلز للتعمير)، وتمثل مشترياتها بين 17 إلى 19 بالمئة"، ويلمح إلى قطر، وتمثلها "الديار القطرية" كذراع استثماري، والتي تطور مشاريع ضخمة مثل (سيتي جيت) بالقاهرة الجديدة، وتمثل مشترياتها بين 11 إلى 13 بالمئة".

 

ورابعا، يذكر "السعودية، والتي يمثلها رجال أعمال ومستثمرين مثل مجموعة (المهيدب)، التي تسيطر على مجموعة (بايونيرز بروبرتيز) و(الجيزة للمقاولات)، وتمثل مشترياتها بين 2 إلى 3 بالمئة من إجمالي مشتريات الأجانب".

 

الفئة الثانية: المشترون الأفراد والباحثون عن الاستقرار

 

تمثل هذه الفئة 4% إلى 6% من إجمالي المشتريات، وتنقسم إلى مجموعتين:

 

1 - مشترون من دول النزاعات

 

وتشمل: السودان وليبيا وسوريا واليمن، ويبحث هؤلاء عن الأمان والملاذ السكني الدائم، مع شراء وحدات سكنية وتجارية وصناعية صغيرة.

 

ويتركز وجودهم في القاهرة الكبرى والجيزة والإسكندرية، وقد ساهم الطلب السوداني خصوصًا في رفع الأسعار بشكل ملحوظ، وتمثل هذه المجموعة 3% - 4% من المشتريات.

 

2 - المشترون من أوروبا وأمريكا

 

وتضم بريطانيين وألمان وروسًا وأمريكيين، أغلبهم يبحث عن مسكن ثانٍ أو منزل عطلات في مواقع ساحلية مثل الغردقة والساحل الشمالي، وتمثل مشترياتهم أقل من 1% فقط.

 

مخاطر زحف رأس المال الأجنبي على السوق

 

1 -  تضخم الأسعار واتساع الفجوة الاجتماعية

يشير خضري إلى أن تركيز الشركات على المشروعات الفاخرة يرفع الأسعار داخل السوق المحلي، ما يعمّق الفجوة الإسكانية ويقصي شريحة واسعة من المصريين من امتلاك سكن مناسب.

 

2 -  نشوء "مدن استثمارية بلا سكان"

الاعتماد على شراء الوحدات كأصول للمضاربة وليس للسكن يولد ما يسمى "مدن الأشباح": مشروعات مكتملة بلا حياة ولا مجتمع حقيقي.

 

3 - توجيه موارد الدولة نحو أقلية

تُمنح الأراضي الممتازة والبنية التحتية لمشروعات فاخرة موجهة لقلة من الأثرياء، بينما تتراجع الاستثمارات في الإسكان المتوسط والاقتصادي وقطاعات الإنتاج.

 

4 - تهديدات تتعلق بالسيادة طويلة المدى

التمركز المكثّف للأجانب بمناطق ساحلية واستراتيجية قد يخلق جيوبًا اقتصادية مغلقة ذات طابع خاص، ما يطرح أسئلة كبرى عن الإدارة والسيطرة المستقبلية على تلك المناطق.