مرة أخرى، تستيقظ الإسكندرية على جريمة بيئية جديدة، حيث شهدت منطقة سبورتنج الراقية "مجزرة" أخرى بحق أشجارها المعمرة، في حلقة جديدة من مسلسل ممنهج لتدمير ما تبقى من المساحات الخضراء في المدينة. وبينما تسارع الأجهزة الحكومية لنفي الواقعة وتدوير تبريراتها القديمة، تقف جذوع الأشجار المقطوعة شاهدًا صامتًا على سياسة حكومية معادية للبيئة، تفضل الخرسانة على الحياة، وتتعامل مع الإرث البيئي للمدينة كعقبة في طريق مشاريع "تطوير" مشوهة لا تراعي إنسانًا أو طبيعة.
كعادتها، لجأت محافظة الإسكندرية إلى أسلوب الإنكار الفوري، مؤكدة أن الصور المتداولة قديمة وتعود لقطع 14 نخلة "مسوسة" قبل ثلاث سنوات، وأنها كانت تشكل خطرًا على المواطنين. هذا النفي، الذي أصبح أسطوانة مشروخة، يتجاهل تمامًا شهادات الأهالي والصور الحديثة التي توثق اقتلاع أشجار سليمة على طول شارع أبو قير وغيره من المناطق لصالح مشاريع توسعة طرق أو إنشاء كبارٍ. إن هذا التناقض الصارخ بين الرواية الرسمية والواقع المرير لا يكشف فقط عن استخفاف بعقول المواطنين، بل يؤكد أن هناك قرارًا مركزيًا بالمضي قدمًا في تدمير البيئة الحضرية مهما كانت الاعتراضات.
هذه "المذبحة" ليست خطأً فرديًا أو قرارًا معزولًا، بل هي انعكاس مباشر لسياسة دولة تتبنى نموذجًا تنمويًا قاسيًا يعتبر الأشجار والمساحات الخضراء رفاهية يمكن الاستغناء عنها. ففي كافة أنحاء مصر، من القاهرة إلى الإسكندرية، تُزال الغابات الحضرية والحدائق التاريخية لإفساح المجال أمام طرق أسفلتية ومشاريع عقارية تخدم مصالح ضيقة لرأس المال وشركات المقاولات، متجاهلة تمامًا الوظائف الحيوية التي تؤديها هذه الأشجار. إنها حرب معلنة على الطبيعة داخل المدن، تجري في غياب تام للمشاركة المجتمعية أو الرقابة الفعالة، وتؤكد أن النظام الحالي يتعامل مع البلاد كأنها ملكية خاصة يتصرف فيها كيفما يشاء.
إن تداعيات هذه السياسة الكارثية أصبحت ملموسة ومؤلمة. فمع كل شجرة تُقطع، ترتفع درجات الحرارة بشكل خانق، وتزداد معدلات تلوث الهواء، وتفقد الأحياء السكنية متنفسها الأخير، لتتحول تدريجيًا إلى "متاهات خرسانية" طاردة للحياة. وفي مدينة مثل الإسكندرية، التي تواجه بالفعل تهديدات وجودية بسبب تغير المناخ وارتفاع منسوب سطح البحر، يُعتبر قطع الأشجار بمثابة صب الزيت على النار، حيث تزيد هذه الممارسات من هشاشة المدينة وتضعف قدرتها على مواجهة العواصف والسيول.
إن ما يحدث في سبورتنج ليس مجرد قطع لأشجار، بل هو اغتيال لذاكرة المدينة وتدمير لحق الأجيال الحالية والقادمة في بيئة صحية ومستدامة. إن صمت الحكومة وتقاعسها عن حماية ثروة مصر الخضراء، بل ومشاركتها الفعالة في تدميرها، لا يمكن وصفه إلا بأنه "جريمة بيئية" مكتملة الأركان. وإذا استمر هذا النهج، فلن يتبقى من الإسكندرية التي عرفناها سوى صور باهتة في ذاكرة الأجداد، ومدينة مشوهة تدفع ثمن قرارات كارثية لم تضع أي اعتبار لقيمة الحياة.