في حلقة جديدة من مسلسل التفريط في أصول الدولة وبيعها تحت لافتة “الاستثمار الأجنبي”، كشفت مصادر مطلعة عن اتفاق بين نائب رئيس مجلس الوزراء للتنمية الصناعية ووزير الصناعة والنقل، كامل الوزير، وعدد من رجال الأعمال والمسؤولين الإماراتيين على تطوير واستغلال 300 فدان من أرض مصنع الحديد والصلب في حلوان — أحد أهم رموز الصناعة المصرية الثقيلة — تمهيدًا لتحويلها إلى مجمع للصناعات المتنوعة باستثمارات تُقدَّر بنحو 1.5 مليار دولار.

لكن خلف الأرقام اللامعة والعناوين البراقة، يختبئ واقع أكثر قتامة؛ إذ يرى مراقبون أن ما يجري ليس “استثمارًا” بقدر ما هو استحواذ ممنهج على مقدرات مصر الصناعية، وأن الإمارات أصبحت الشريك الأكبر في عمليات تصفية الأصول وشراء الأراضي المملوكة لشركات القطاع العام التي دمّرتها سياسات الانقلاب خلال السنوات الماضية.
 

من أيقونة الصناعة إلى أرض للبيع
بدأت مأساة “الحديد والصلب المصرية” عام 2021 عندما قررت الجمعية العمومية للشركة، برئاسة وزير قطاع الأعمال الأسبق هشام توفيق، تصفية المصنع الذي كان أحد أعمدة الصناعة الوطنية منذ خمسينيات القرن الماضي.

ورغم الانتقادات الواسعة من خبراء الصناعة والنقابات العمالية الذين حذروا من أن القرار يمثل “طعنة في قلب الصناعة الوطنية”، مضت الحكومة في خطتها، مبررة ذلك بتقادم المعدات وتراكم الديون، دون أن تُقدّم مشروعًا جادًا لتحديث المصنع أو استعادة دوره.

اليوم، وبعد أربع سنوات فقط من إغلاقه، يُعاد توزيع أراضي المصنع وكأنها “غنيمة عقارية”، إذ تم الاتفاق على تخصيص 300 فدان لمجمع صناعي تشارك فيه أطراف إماراتية، وسط غياب الشفافية وغياب أي مناقصة علنية أو دراسات تفصيلية تضمن استفادة الاقتصاد المصري فعلاً من هذه الصفقة.
 

تحويل الأراضي الصناعية إلى ذهب عقاري
لم يتوقف مسلسل البيع عند هذا الحد. ففي نهاية عام 2021، وافقت الجمعية العامة للشركة على تغيير نشاط الأراضي من صناعي إلى سكني لرفع عائد بيعها واستخدام العائد في سداد الديون.
وبعد عامين، وتحديدًا في أكتوبر 2023، أعلنت الحكومة تحويل 120 فدانًا أخرى من أراضي المصنع إلى نشاط سكني وسياحي وخدمي، قبل أن تكشف وزارة قطاع الأعمال في ديسمبر 2023 عن خطة لتحويل ما يقرب من ألفي فدان من أراضي الشركة إلى مشروع عمراني متكامل، ليصبح بذلك مشروع “الحديد والصلب” نموذجًا صارخًا لتحويل الصناعة إلى عقارات.

ويرى خبراء اقتصاديون أن الحكومة، بدلًا من تطوير المصنع التاريخي وإعادة تشغيله، فضلت الطريق الأسهل والأكثر ربحًا على المدى القصير: بيع الأرض للمستثمرين، خصوصًا لحلفائها الخليجيين، الذين أصبحوا أصحاب اليد العليا في إدارة ملف الاستحواذ على الأصول المصرية، من الموانئ إلى شركات الطاقة وحتى الأراضي الصناعية.
 

أين الاستثمار الحقيقي؟
تتحدث الحكومة عن استثمارات بـ1.5 مليار دولار في “مجمع الصناعات الجديد”، تشمل قطاعات النسيج والملابس الجاهزة والأدوية والبتروكيماويات، بحجة “تحقيق التكامل الصناعي وتعميق الصناعة المحلية”.

لكن هذه الشعارات، كما يقول محللون، مجرد غطاء لغسل الوجه القبيح لسياسات الخصخصة الجديدة، التي تُفرغ مصر من قدرتها على الإنتاج وتحوّلها إلى سوق مفتوح أمام المستثمرين الأجانب، لا سيما من الإمارات، التي توسّعت خلال الأعوام الأخيرة في شراء أصول الدولة بأسعار زهيدة، مقابل وعود بمشروعات لا تتحقق على أرض الواقع.

ويشير مراقبون إلى أن الإمارات — رغم إعلانها المتكرر “دعم الاقتصاد المصري” — لم تقدم ما ينفع المواطن فعلاً، بل ركزت على الاستحواذ على الأراضي والعقارات والموانئ ذات القيمة الاستراتيجية، ما جعلها المستفيد الأكبر من أزمات القاهرة المالية، في حين يتحمل المصريون وحدهم نتائج هذه الصفقات من فقدان فرص العمل إلى تآكل الصناعات الوطنية.
 

بيع المستقبل باسم “الشراكة”
تتحول قصة “الحديد والصلب” اليوم إلى رمز لانهيار مفهوم الصناعة الوطنية في ظل حكم لا يرى في الأصول العامة إلا فرصة للصفقات العقارية.
وإذا كان الوزير يروّج للاتفاق الجديد كخطوة نحو “تطوير حلوان”، فإن الحقيقة الواضحة هي أن الأرض تُباع قطعة قطعة، بينما يُدفن التاريخ الصناعي تحت لافتات “استثمار إماراتي”.
إنها ليست صفقة لتطوير الصناعة، بل صفقة لدفنها — تحت مسمى “التنمية”.