تجاوزت أعداد الوفيات داخل السجون المصرية خلال السنوات الأخيرة حدّ الكارثة الإنسانية، وسط اتهامات مباشرة للنظام العسكري الحاكم باستخدام الإهمال الطبي والتعذيب كأدوات قتل بطيء للمعتقلين السياسيين. فبينما تتحدث وزارة الداخلية عن “وفيات طبيعية”، توثّق منظمات حقوقية محلية ودولية ما وصفته بـ“سياسة إعدام صامتة” تنفذها الدولة خلف القضبان.
منذ عام 2015 وحتى 2025، سُجّلت أكثر من 300 حالة وفاة داخل السجون، معظمها نتيجة الإهمال الطبي وغياب أبسط مقومات الرعاية الصحية. فخلال عام 2021 وحده، توفي أكثر من 60 معتقلاً سياسيًا، وفي 2022 قُيدت 52 وفاة مشابهة، تلتها 32 حالة في 2023، وأكثر من 50 في 2024، فيما وثّقت منظمات حقوقية استمرار الوفيات في 2025، من بينهم هشام الحداد وعدلي عبد النافع وأحمد بشندي داخل سجن أبو زعبل، نتيجة غياب الرعاية الصحية الكاملة.
الإهمال الطبي… أداة قمع مميتة
تشير تقارير “مركز النديم” و“هيومن رايتس ووتش” إلى أن السبب الرئيس وراء هذه الوفيات هو الإهمال الطبي المتعمد الذي يُمارس كسياسة عقابية من قبل الأجهزة الأمنية. فالمرضى يُتركون لأوجاعهم دون علاج، وتُرفض طلبات نقلهم إلى المستشفيات رغم تدهور حالاتهم، ما يحول الأمراض المزمنة إلى أحكام إعدام بطيئة.
وتضاف إلى ذلك ظروف الاحتجاز غير الإنسانية في سجون مكتظة تفتقر إلى التهوية والمرافق الصحية والطعام الآدمي، في ظل انتشار التعذيب والعزل الانفرادي ومنع الزيارات، وهي ممارسات تؤدي إلى انهيار بدني ونفسي متسارع بين المعتقلين.
الجهات الأمنية… من الحبس إلى القتل الصامت
لا تقتصر معاناة المعتقلين على سوء الأوضاع، بل تمتد إلى تواطؤ واضح من وزارة الداخلية وأجهزة الأمن، حيث يُمنع الدواء، وتُرفض التوصيات الطبية، وتُتخذ قرارات تعسفية بحرمان كبار السن والمرضى من الإفراج الصحي حتى بعد تدهور حالتهم.
شهادات محامين وأسر الضحايا تشير إلى أن بعض الوفيات جاءت بعد تعرض السجناء للضرب أو التعذيب المباشر، بينما تم التلاعب بالتقارير الطبية الرسمية لإخفاء الأسباب الحقيقية للوفاة.
ورغم مطالبات حقوقية متكررة بفتح تحقيقات مستقلة، لم تُحاسَب أي جهة رسمية، ما يرسخ مناخ الإفلات من العقاب ويكشف عن سياسة قتل بغطاء قانوني وأمني.
وجوه بارزة في قائمة الضحايا
لم تسلم القيادات السياسية والمعارضة من هذه السياسات. فقد توفي الرئيس الشهيد الدكتور محمد مرسي في يونيو 2019 داخل قفص المحكمة بعد تدهور حالته الصحية وحرمانه من العلاج. كما رحل المرشد العام الأسبق مهدي عاكف عام 2017 بعد معاناة طويلة من المرض داخل محبسه.
وشملت القائمة أيضًا النائب محمد الفلاحجي الذي توفي عام 2015 نتيجة فشل كبدي حاد، وفريد إسماعيل الذي قضى في العام نفسه بعد حرمانه من الدواء. وفي عام 2020، توفي الدكتور عصام العريان داخل سجن العقرب إثر أزمة قلبية، بينما واصل آخرون مثل محمد الحوفي وحمادة عطية رحلة الموت البطيء بين أسوار السجون خلال أعوام 2023 و2024.
تلك الأسماء ليست إلا رموزًا لعشرات المجهولين الذين فقدوا حياتهم بعيدًا عن الأضواء، دون محاسبة أو اعتراف رسمي بالمسؤولية.
أصوات حقوقية تكشف الجريمة
أكدت منظمة هيومن رايتس ووتش أن وفيات المعتقلين في مصر تمثل “نمطًا ممنهجًا من القتل بالإهمال”، فيما أوضح مركز النديم أن السلطات تستخدم الحرمان من العلاج كوسيلة عقاب.
أما الحقوقي الدولي نيكولاس بياشود فأشار إلى أن الانتهاكات الحالية امتداد لنهج متجذر منذ عهد مبارك، لكنه تضاعف في ظل الحكم العسكري بعد 2013، حين تحولت السجون إلى “مناطق خارجة عن القانون”.
صرخة من أجل العدالة
تزايد وفيات المعتقلين السياسيين يمثل جريمة دولة مكتملة الأركان، تُدار بأوامر أمنية وصمت قضائي. إنّ تجاهل هذه الكارثة يضع الحكومة المصرية أمام مسؤولية قانونية وأخلاقية أمام المجتمع الدولي.
الحل لا يكون بالإنكار، بل عبر تحقيقات مستقلة تكشف المتورطين، وإصلاح عاجل لمنظومة السجون، وضمان العلاج والرعاية للمعتقلين، إضافة إلى الإفراج عن كبار السن والمرضى، فاستمرار هذه السياسات القمعية يظل سيفا حادا ومسموما على رقاب المعتقلين وذويهم.