على الرغم من سيل التصريحات المتفائلة والمبادرات الحكومية المتكررة، لا تزال أزمة المصانع المتعثرة تمثل واحدة من أعقد ملفات الاقتصاد المصري.
فبعد سنوات من الوعود التي يصفها المستثمرون بأنها "زائفة" والمبادرات التي بقيت حبيسة الأوراق، ما زالت آلاف المصانع مغلقة، تدور حولها عجلة الوعود لا عجلة الإنتاج.

وتقدّر الخسائر الناتجة عن هذا التعثر بنحو 100 مليار جنيه سنويًا، وفق تقديرات غير رسمية.
 

تمويل غائب وأرقام متضاربة
يتفق أصحاب المصانع والمستثمرون على أن التمويل يمثل العقبة الكبرى أمام إعادة تشغيل المصانع المتوقفة. فبينما تتحدث الحكومة عن خطط لإحياء النشاط الصناعي، يشتكي الصناعيون من اتساع الفجوة بين الأرقام الرسمية والواقع الحقيقي على الأرض، ما يثير تساؤلات حول مدى دقة التشخيص وجدية الحلول.

في أحدث محاولات المعالجة، أعلن وزير الصناعة والنقل، كامل الوزير، عن مبادرة جديدة بالتعاون مع البنك المركزي لتأسيس صندوق استثماري يشارك فيه عدد من البنوك الحكومية. هدف الصندوق هو الاستثمار المباشر في المصانع المتعثرة عبر ضخ التمويل مقابل حصة من الملكية، على أن يسترد أمواله لاحقاً بعد استقرار الأوضاع.

ووفق بيانات الوزارة، يبلغ عدد المصانع المتعثرة نحو 11,300 مصنع، تمت معالجة بعض مشكلاتها الفنية، فيما لا يزال 6,000 مصنع يعاني من أزمات مالية سيجري التعامل معها عبر الصندوق.

لكن هذه الأرقام الرسمية قوبلت بتشكيك واسع من المستثمرين. إذ يؤكد المهندس محمود الشندويلي، رئيس جمعية مستثمري سوهاج، أن مثل هذه الوعود "تُطلق دون متابعة أو تفعيل فعلي على الأرض"، مشيرًا إلى ضرورة "إجراء حصر ميداني شامل للمصانع المتوقفة لتحديد حجم الأزمة الحقيقي".
 

فجوة واسعة بين الحكومة والمستثمرين
الخلاف حول عدد المصانع المتعثرة يعكس فجوة ثقة متزايدة بين الحكومة وقطاع الصناعة. فبينما تتحدث البيانات الرسمية عن 11 ألف مصنع، يرى الشندويلي أن الرقم الحقيقي يقترب من 70 ألف مصنع على مستوى الجمهورية. كما يؤكد مسؤولون باتحاد الصناعات المصرية أن عدد المصانع المتعثرة لا يقل عن 20 ألفًا تتراوح بين التعثر الجزئي والتوقف الكلي.

ويضرب الشندويلي مثالًا بمحافظة سوهاج، حيث تشير الإحصاءات الرسمية إلى 70 مصنعًا متوقفًا، بينما تؤكد الجمعيات الصناعية وجود أكثر من 350 مصنعًا يعاني من توقف شبه كامل. هذا التباين، بحسب المستثمرين، يجعل من المستحيل وضع خطة واقعية لإعادة التشغيل دون حصر دقيق ودراسة تفصيلية لكل حالة.
 

تراجع الحوافز وتحديات الاستثمار في الصعيد
تفاقمت الأزمة مع تراجع الحوافز الاستثمارية، خصوصًا في محافظات الصعيد التي كانت تُعد ركيزة رئيسية لخطط التنمية. ويشير الشندويلي إلى أن الأراضي الصناعية التي كانت تُمنح بالمجان وصل سعر المتر فيها إلى نحو 1000 جنيه، فضلًا عن إلغاء الإعفاءات الضريبية، ما زاد من أعباء المستثمرين بدلًا من تخفيفها. ويتساءل: "أين الصعيد من الدعم الحقيقي؟ وكيف يُطلب من المستثمرين التوسع وسط هذه الظروف؟"
 

معضلة التمويل وشروط البقاء
تظل أزمة التمويل محور المشكلة. فالمبادرة الحكومية الجديدة التي تقترح دخول البنوك كشريك بحصة 25% من رأس المال تبدو مقبولة نظريًا، لكنها تثير مخاوف من البيروقراطية والتأخير. ويؤكد الشندويلي أن "النجاح مرهون بالتنفيذ الواقعي، لا بالتصريحات المتكررة".

من جانبه، يربط المهندس محمد حنفي، المدير التنفيذي لغرفة الصناعات المعدنية، نجاح أي مبادرة تمويلية بشرط أساسي هو أن تكون بدون فوائد أو بفوائد رمزية جدًا، موضحًا أن هوامش الربح في المصانع لا تتجاوز 10%، وبالتالي فإن تحميلها بفوائد مصرفية سيعيدها للتوقف مجددًا.
ويضيف أن نقص السيولة وارتفاع أسعار الخامات بعد تدهور سعر الجنيه جعل كثيرًا من المصانع تعمل بطاقات منخفضة للغاية، وأن توفير تمويل ميسر سيعيد تشغيلها فورًا دون الحاجة إلى إعادة هيكلة.
 

أزمة ثقة تحتاج إلى إرادة حقيقية
في المحصلة، تتجاوز أزمة المصانع المتعثرة حدود الاقتصاد إلى أزمة ثقة بين الحكومة وقطاع الصناعة. فبينما ينتظر المستثمرون إجراءات حقيقية تحفّز الإنتاج وتخفّف الأعباء، تكتفي الحكومة بإطلاق مبادرات إعلامية متكررة دون أثر ملموس.

إن إعادة تشغيل تلك المصانع، التي كانت توفّر أكثر من مليون فرصة عمل، لا تعني فقط إنقاذ استثمارات ضخمة، بل تمثل خطوة ضرورية لتعزيز الإنتاج المحلي وخفض الاستيراد واستقرار الأسعار.
غير أن تحقيق ذلك يظل رهناً بقرارات شجاعة تتجاوز الخطاب الرسمي إلى التنفيذ الواقعي، تعيد الثقة بين الحكومة والقطاع الصناعي وتضع الاقتصاد المصري على طريق التعافي الفعلي.