دخلت محافظة السويداء جنوب سوريا مرحلة جديدة من التصعيد الأمني والسياسي، بعد أيام دامية من الاشتباكات العنيفة بين مجموعات مسلحة درزية وأخرى بدوية، تطورت لاحقًا إلى تدخل الجيش السوري، أعقبه قصف إسرائيلي مكثف على مواقع عسكرية داخل المدينة وريفها، ما أدخل المنطقة في وضع غير مسبوق من الغموض والانفلات.

ففي وقت أعلنت فيه الرئاسة الروحية للدروز في سوريا رفضها القاطع دخول أي جهة أمنية، بما في ذلك قوات الأمن العام أو الفصائل الإسلامية المعارضة، إلى السويداء، طالبت في بيان رسمي بالحماية الدولية لحماية المدنيين و"حقن الدماء"، محملة المسؤولية لأي طرف يسعى لتغيير موازين القوى داخل المحافظة بقوة السلاح.

وبينما كانت قوات الجيش السوري قد باشرت بعمليات عسكرية محدودة لضبط الأمن في الريف، أعقبها دخول وحدات إلى المدينة نفسها، شنت طائرات الاحتلال الإسرائيلي غارات متفرقة استهدفت دبابات ومواقع عسكرية سورية، بذريعة حماية الدروز، وبتوجيه مباشر من رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو.

 

غارات إسرائيلية تهدد السيادة السورية
أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي، صباح الثلاثاء، شنّ غارات واسعة النطاق على محافظة السويداء، استهدفت دبابات ومواقع عسكرية سورية، بزعم "منع التهديد العسكري" قرب حدود الجولان المحتل. وقال بيان للجيش إن العملية نُفذت "بتوجيه من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو"، وأنها تمثل "رسالة تحذير واضحة للنظام السوري".

وكشفت القناة 12 العبرية أن اجتماعًا طارئًا عُقد صباحًا ضم نتنياهو، ووزير الجيش يسرائيل كاتس، ورئيس الأركان إيال زامير، لبحث تطورات الأوضاع جنوب سوريا، وقرر خلاله قادة الاحتلال توسيع نطاق الرد العسكري في السويداء "دفاعًا عن الدروز"، وفق وصفهم.

وكانت إذاعة جيش الاحتلال قد نقلت عن مسؤول عسكري أن الغارات جاءت "ردًا على دخول قوات سورية للسويداء وما وصفه بتجاوز الخطوط الحمراء"، في إشارة إلى ما تعتبره إسرائيل "منطقة حظر عمليات عسكرية" على مقربة من حدودها الشمالية.

 

الداخلية السورية تتدخل.. وفرض حظر تجول
من جهته، أعلن قائد الأمن الداخلي في السويداء اللواء أحمد الدالاتي، فرض حظر تجول شامل اعتبارًا من صباح الاثنين وحتى إشعار آخر، داعيًا الأهالي إلى الالتزام بالبقاء في منازلهم، ومؤكدًا أن الدولة "لن تسمح باستخدام المباني السكنية كمواضع لمسلحين".

وقالت وزارة الداخلية السورية في بيان رسمي إنها باشرت عملياتها في المدينة لـ"فرض الأمن ووقف النزاع وملاحقة المتسببين وتحويلهم إلى القضاء"، مشددة على ضرورة إعادة الاستقرار وترسيخ سيادة القانون.

وجاء هذا التدخل بعد عجز الفعاليات المحلية عن احتواء الاشتباكات، ووقوع خسائر بشرية كبيرة، إذ أعلن مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، رامي عبد الرحمن، أن عدد القتلى جراء المعارك بين المسلحين الدروز والبدو تجاوز 100 شخص حتى يوم الاثنين، في حين تحدثت وكالة الأنباء السورية "سانا" عن سقوط أكثر من 30 قتيلًا ونحو 100 جريح حتى مساء الاثنين.

 

جذور الأزمة: نزاع محلي أم مشروع إقليمي؟
تعود بداية الأحداث إلى حادثة سلب تعرض لها سائق شاحنة خضار من أبناء السويداء، على طريق دمشق-السويداء، قبل أيام، ضمن سلسلة من الاعتداءات المتكررة على هذا الطريق الحيوي خلال الشهرين الماضيين. وأفادت تقارير أن الحادث تسبب في حالة غضب دفعت مجموعات درزية إلى خطف عدد من أبناء عشائر البدو، ما قوبل برد مماثل تمثل في خطف شبان دروز، ليتحول النزاع إلى مواجهة مسلحة.

ورغم نجاح وساطات محلية في إطلاق سراح المختطفين فجر الاثنين، إلا أن الاشتباكات كانت قد امتدت إلى داخل المدينة، ما دفع السلطات إلى التدخل.

وأعلن وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة، صباح الثلاثاء، التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بعد تنسيق مع وجهاء المدينة، وأمر بانتشار الشرطة العسكرية داخل السويداء "لحفظ النظام ومحاسبة المتجاوزين"، مؤكدا أن مهام القوات الحكومية تقتصر على ضبط الأمن وحماية الممتلكات.

 

الرئاسة الروحية: لا للأمن العام.. نعم للحماية الدولية
وسط هذا الوضع المتفجر، أصدرت الرئاسة الروحية للطائفة الدرزية بيانًا ناريًا أكدت فيه رفضها التام دخول أي جهة عسكرية أو أمنية إلى السويداء، بما في ذلك الأمن العام السوري وهيئة تحرير الشام، واتهمت تلك الجهات بـ"المشاركة في قصف القرى ومساندة مجموعات تكفيرية".

وأكد البيان أن "كل من يساهم في الاعتداء على المدينة أو يسعى لإدخال قوى أمنية إليها، يتحمل المسؤولية كاملة"، مطالبًا بتدخل المجتمع الدولي فورًا لحماية المدنيين، واصفًا المطلب بأنه "حق مشروع في ظل غياب الحماية الداخلية".

 

سقوط الأسد وإعادة رسم الخرائط
وتأتي هذه التطورات بعد سقوط نظام بشار الأسد أواخر عام 2024 إثر هجوم مفاجئ شنته فصائل المعارضة المسلحة بقيادة "هيئة تحرير الشام" في أواخر نوفمبر، أفضى إلى فراره إلى روسيا وإعلان نهاية حقبته، وفق مصادر رسمية ومعارضة.

ومع دخول مرحلة ما بعد الأسد، بدأت قوات الأمن التابعة للحكومة الجديدة عمليات انتشار في عدد من المحافظات، غير أن السويداء بقيت على الهامش، بعد رفض الشيخ حكمت الهجري دخولها من باب "حقن الدماء"، ما دفع السكان المحليين إلى إدارة شؤون المدينة بأنفسهم، قبل أن تنهار المحاولة مع تصاعد الفوضى.

إسرائيل تفرض معادلتها الجديدة
في خضم هذه التعقيدات، استغلت إسرائيل هشاشة الوضع السوري لتوسيع تدخلها العسكري في الجنوب، خاصة بعد انهيار اتفاق فض الاشتباك الذي أُبرم في أعقاب حرب 1973. فبعد سقوط الأسد، دخلت قوات إسرائيلية إلى مناطق منزوعة السلاح قرب جبل الشيخ للمرة الأولى منذ توقيع الاتفاق، وأعلنت أنها ستحتل تلك المناطق لـ"أسباب أمنية".

وفي أكثر من مناسبة، أكد وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر أن الجولان "خارج التفاوض"، مشيرًا إلى أن إقامة علاقات سلام مع سوريا أو لبنان مرهونة باعترافهما بسيادة إسرائيل على الهضبة المحتلة.