تشهد جامعة الدول العربية في الأشهر الأخيرة صراعًا محتدمًا بين مصر والسعودية حول منصب الأمين العام، مع اقتراب انتهاء ولاية أحمد أبو الغيط في سبتمبر 2025.
يسعى قائد الانقلاب العسكري المصري عبد الفتاح السيسي إلى ترشيح رئيس الحكومة الحالي مصطفى مدبولي لخلافة أبو الغيط، في حين تبدي السعودية رفضًا واضحًا لهذا التوجه، وتسعى بدورها إلى تهميش الدور المصري التقليدي في قيادة الجامعة لصالح مرشح سعودي أو على الأقل تعزيز نفوذها عبر منصب الأمين العام المساعد بصلاحيات واسعة.
هذا الصراع يعكس تحولات في موازين القوى الإقليمية، حيث لم تعد القاهرة تحتكر المنصب كما كان عليه الحال لعقود، بل باتت تواجه رغبة خليجية، خاصة سعودية، في تدويل المنصب أو نقله إلى الرياض.
جذور الصراع وتطوره عبر السنوات
لم يكن الصراع على منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية جديدًا على الساحة السياسية العربية، بل تكرر في أكثر من محطة تاريخية. منذ تأسيس الجامعة عام 1945، جرى العرف أن يكون الأمين العام من دولة المقر، أي مصر، باستثناء فترة تعليق عضوية القاهرة ونقل المقر إلى تونس في أعقاب اتفاقية كامب ديفيد عام 1979. لكن مع تصاعد النفوذ الخليجي، خاصة السعودي، برزت محاولات متكررة لكسر هذا العرف.
ففي عام 2011، مع انتهاء ولاية عمرو موسى، برزت منافسة عربية حادة، حيث طرحت العراق وقطر أسماء مرشحين من خارج مصر، وبدأت دول الخليج في استكشاف إمكانية تدويل المنصب.
اليوم، ومع تراجع الدور المصري إقليميًا، تجد القاهرة نفسها أمام معركة غير مضمونة النتائج للحفاظ على آخر رموز نفوذها العربي.
لماذا تثار القضية الآن؟
تتجدد هذه القضية اليوم مع اقتراب نهاية ولاية أحمد أبو الغيط، في ظل متغيرات إقليمية كبيرة. السعودية، التي عززت مكانتها الاقتصادية والسياسية في السنوات الأخيرة، ترى أن الوقت قد حان لتولي زمام القيادة العربية رسميًا، أو على الأقل تقاسمها مع مصر.
ويأتي ذلك في سياق رغبة خليجية عامة في إعادة هيكلة المنظومة العربية بما يعكس موازين القوى الجديدة. من جهة أخرى، يسعى النظام المصري، الذي يواجه انتقادات داخلية ودولية متزايدة بسبب ممارساته الاستبدادية منذ انقلاب 2013، إلى تثبيت شرعيته الإقليمية عبر الاحتفاظ بمنصب الأمين العام كرمز لدور القاهرة التاريخي في العالم العربي.
وقد أشار دبلوماسيون مصريون إلى أن مهمة القاهرة هذه المرة "صعبة"، في ظل رغبة بعض الدول الأعضاء في تدويل المنصب وطرح مرشحين جدد من خارج مصر.
تاريخ جامعة الدول العربية وأهدافها
تأسست جامعة الدول العربية رسميًا في 22 مارس 1945، ووقع على ميثاقها سبع دول عربية مستقلة آنذاك، قبل أن تلتحق السعودية واليمن لاحقًا.
جاء تأسيس الجامعة في سياق تصاعد الحركات الوطنية العربية، ومواجهة التحديات الاستعمارية والصهيونية، حيث نص ميثاقها على تدعيم العلاقات والوشائج العربية في إطار احترام الاستقلال والسيادة الوطنية.
توسعت عضوية الجامعة لتشمل 22 دولة، ومرت بمحطات مفصلية أبرزها تعليق عضوية مصر ونقل المقر إلى تونس بين 1979 و1989، ثم عودة القاهرة كمقر دائم للجامعة.
ورغم محاولات تطويرها، ظلت الجامعة عاجزة عن تحقيق وحدة عربية حقيقية أو حل الأزمات الكبرى، ما جعلها في مرمى انتقادات الشعوب العربية.
رؤساء الجامعة وأعراف التعيين
تولى منصب الأمين العام للجامعة منذ تأسيسها شخصيات مصرية في معظمها، بدءًا من عبد الرحمن عزام (1945-1952)، مرورًا بمحمد عبد الخالق حسونة، محمود رياض، الشاذلي القليبي (التونسي الوحيد خلال نقل المقر)، عصمت عبد المجيد، عمرو موسى، نبيل العربي، وأخيرًا أحمد أبو الغيط.
العرف السائد كان أن يكون الأمين العام من دولة المقر، أي مصر، وغالبًا من وزراء الخارجية السابقين، وليس من رؤساء الحكومات.
اليوم، يثير ترشيح مدبولي، وهو أول رئيس حكومة يرشح للمنصب، جدلًا حتى داخل الأوساط المصرية، بينما تصر السعودية على تدويل المنصب أو على الأقل تعيين أمين عام مساعد سعودي بصلاحيات واسعة، ما يعكس حجم التحولات في التوازنات العربية.
تصريحات السياسيين وتداعيات الصراع
أبرز التصريحات تعكس حجم الانقسام العربي حول المنصب، فقد أشار دبلوماسي مصري إلى أن "مدبولي يتمتع بثقة كبيرة لدى الرئيس السيسي ومؤسسات الدولة المصرية"، لكن المهمة صعبة بسبب اعتراضات خليجية على بعض المرشحين المصريين السابقين، مثل سامح شكري.
من جهة أخرى، دعا الكاتب السياسي عماد جاد إلى نقل مقر الجامعة إلى السعودية وتوليها رئاسة الجامعة، معتبرًا ذلك "قرارًا موضوعيًا ومفيدًا لكافة الدول العربية" في ظل التوازنات الحالية.
أما السعودية، فترى أن الوقت قد حان لكسر احتكار القاهرة للمنصب، وتطالب بدور أكبر يتناسب مع وزنها الإقليمي والاقتصادي.
هذا الصراع لا يعكس فقط تنافسًا على منصب إداري، بل هو مؤشر على إعادة رسم خريطة النفوذ العربي، وسط تساؤلات عن مدى قدرة الجامعة على لعب دور حقيقي في ظل هذه الانقسامات.
بهذا المشهد، تبدو معركة منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية في 2025 اختبارًا حقيقيًا لمستقبل العمل العربي المشترك، ولموقع مصر في النظام الإقليمي الجديد، وسط تصاعد الأصوات المعارضة للانقلاب العسكري في القاهرة والتي ترى أن فقدان مصر لهذا المنصب سيكون تتويجًا لتراجع دورها العربي منذ 2013.