في تقرير نشرته مؤسسة كارنيجي، تضيء الضوء على واقع البودكاستات في السعودية، التي تشهد انتشارًا سريعًا رغم القيود الشديدة على حرية الإعلام. تحتل المملكة المرتبة 162 من أصل 180 في مؤشر حرية الصحافة لعام 2024، ويُراقب الإعلام بشكل دقيق من قِبل السلطات، سواء كان مطبوعًا أو رقميًا. ومن أبرز الأمثلة على القمع، اغتيال الصحفي جمال خاشقجي عام 2018، وسجن العديد بسبب تغريدات.

رغم ذلك، تشهد المنظومة الإعلامية السعودية توسعًا ملحوظًا، ومنها إذاعات البودكاست التي أصبحت وسيلة جديدة ومؤثرة لنقل الأفكار، وتتناول مواضيع متنوعة مثل ريادة الأعمال وعلم النفس والتحولات الاجتماعية، بل وتطرق بعض الحلقات إلى السياسة بشكل غير مباشر، حيث يستضيف بعض البودكاست مسؤولين كبارًا ويتطرق إلى قضايا تمس المواطنين، مما يخلق مساحة محدودة للمساءلة.

 

بودكاست "سقراط" نموذجًا

من أبرز هذه البرامج بودكاست "سقراط" الذي يقدمه عمر الجريسي، وبدأ كشرح مبسط لمبادرات "رؤية 2030" عبر سناب شات، وتحول لاحقًا إلى سلسلة مقابلات طويلة مع مسؤولين في الدولة. إحدى الحلقات استضافت مسؤولًا في برنامج التحول الصحي، وطرح الجريسي سؤالًا مباشرًا حول استمرار العلاج المجاني، وهو أمر حساس ومهم للمواطنين، ما أجبر الضيف على توضيح الموقف علنًا، وأكد في النهاية أن المواطنين "لن يدفعوا ريالًا".

 

البودكاست بين المساءلة والدعاية

طرح هذه الأسئلة يثير جدلًا: هل يمثل هذا النوع من المقابلات مساءلة فعلية؟ أم أنه جزء من حملة ترويجية لـ"رؤية 2030"؟ الإجابة تقع في المنتصف، بحسب التقرير، حيث يجمع "سقراط" بين الاستفهام والنقد الخفيف دون تجاوز الخطوط الحمراء.

 

فن الحوار في ظل الرقابة

الجريسي يعترف أن برنامجه ليس منصة لتحقيقات صحفية، بل مساحة "وثائقية" لتفسير السياسات، ويصف نفسه بأنه يسعى إلى زيادة عدد المؤمنين بـ"رؤية 2030". ومع ذلك، لا يتجاهل تمامًا النقد، بل يطرح أسئلة الجمهور ويحاول إيصال انشغالاتهم للمسؤولين، لكن دون محاولة إحراجهم أو إحكام الزوايا عليهم.

 

شبكة ثمانية والنفوذ السياسي

يأتي سقراط ضمن شبكة ثمانية التي أنشأت أيضًا بودكاست "فنجان" و"سوالف بزنس"، وتوسعت بعد شراء المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام (SRMG) لحصة فيها، مما أثار شكوكًا حول استقلاليتها، خصوصًا أن SRMG لها علاقات مباشرة بالحكومة. إلا أن مؤسس "فنجان" عبدالرحمن أبو مليح أكد أن الاستقلالية التحريرية محفوظة رغم الشراكة.

 

الدور الغامض في النظام السلطوي

يقارن التقرير البودكاستات السعودية بممارسات مشابهة في أنظمة سلطوية أخرى مثل روسيا والصين وفنزويلا، حيث تُستخدم بعض الوسائل الإعلامية لنقل "شكاوى مدروسة" إلى النظام، ما يمنح إحساسًا زائفًا بالمشاركة الشعبية. رغم ذلك، يقر التقرير بأن برامج مثل "سقراط" توفر نافذة نادرة لفهم السياسات العامة في بيئة إعلامية مغلقة.

 

إعلام تحت التهديد

التحول الإعلامي لا يخلو من المخاطر. في يناير 2024، اعتُقل حاتم النجار مقدم بودكاست "مربّع" بعد حملة انتقادات ضده بسبب تغريدات قديمة. رغم إطلاق سراحه في فبراير 2025، يسلّط الحدث الضوء على هشاشة الحريات الإعلامية، حتى في البودكاستات التي يُفترض أنها أكثر مرونة.

 

بين الإصلاح والقيود

في النهاية، تؤكد مؤسسة كارنيجي أن هذه البودكاستات لا يمكن وصفها بالدعاية البحتة، ولا يمكن اعتبارها مستقلة كليًا. بل تمثل توازنًا دقيقًا بين دعم النظام وتقديم انتقادات محدودة، بحيث تُسهم في تقوية شرعية النظام دون تهديد سلطته. السؤال الكبير هو: إلى متى تستطيع هذه البودكاستات الاستمرار في أداء هذا الدور المتوازن في ظل بيئة سياسية لا تتسامح مع النقد الحقيقي؟

https://carnegieendowment.org/research/2025/06/saudi-arabia-podcasts-media-political-constraints?lang=en