تشهد مصر موجة متصاعدة من زيادة الأسعار، خاصة على السلع الأساسية والخدمات، في ظل أزمة اقتصادية طاحنة تزداد تفاقمًا مع الوقت.
تُرجع الحكومة المصرية هذه الزيادات إلى "إصلاحات اقتصادية ضرورية"، بينما يرى كثير من المحللين أنها استجابة لشروط صندوق النقد الدولي مقابل الحصول على القروض.
فهل هذه السياسة نابعة من رؤية إصلاحية حقيقية، أم أنها مجرد تنفيذ لشروط خارجية؟ وما مدى تأثير القروض الدولية وسياسات الحكومة الخاطئة على الوضع المعيشي للمواطنين؟
السياق التاريخي.. من الانقلاب العسكري إلى الأزمة الاقتصادية
بعد الانقلاب العسكري في 2013، دخلت مصر في دوامة من السياسات الاقتصادية الفاشلة التي زادت من تفاقم الديون الخارجية وانهيار قيمة الجنيه.
وفقًا للبنك المركزي المصري، بلغ الدين الخارجي أكثر من 168 مليار دولار بحلول نهاية 2024، مقارنة بنحو 46 مليار دولار في 2013.
كما انخفضت الاحتياطيات النقدية الأجنبية من نحو 36 مليار دولار في 2011 إلى حوالي 32 مليار دولار في 2025، رغم القروض الضخمة التي حصلت عليها الحكومة.
وقد لجأت حكومة الانقلاب إلى سياسات تقشفية قاسية، مثل تحرير سعر الصرف في 2016، مما تسبب في انهيار قيمة الجنيه بنسبة تصل إلى 300%، وارتفاع التضخم إلى مستويات قياسية تجاوزت 35% في بعض الفترات.
وفي 2023، وقعت مصر على اتفاقية جديدة مع صندوق النقد الدولي بقيمة 3 مليارات دولار، اشترطت فيها خفض الدعم وزيادة الضرائب وخصخصة بعض القطاعات العامة.
زيادة الأسعار.. بين الضرورة المحلية والضغوط الخارجية
تشير البيانات الرسمية إلى أن أسعار السلع الأساسية، مثل الخبز والسكر والزيت، ارتفعت بنسبة تتراوح بين 50% و200% منذ 2020 حتى 2025.
وتُعلل الحكومة هذه الزيادات بضرورة خفض العجز في الموازنة وتقليل الإنفاق، لكن الواقع يشير إلى أن هذه الإجراءات تأتي ضمن شروط صندوق النقد الدولي.
فقد تضمنت اتفاقية الصندوق شروطًا صارمة، منها:
- تعويم الجنيه جزئيًا، مما أدى إلى انخفاض قيمته إلى أكثر من 50 جنيهًا للدولار في 2025.
- رفع أسعار الوقود والكهرباء تدريجيًا، حيث زادت أسعار البنزين بنسبة 150% منذ 2019.
- خصخصة الشركات الحكومية، حيث تم بيع حصص في شركات مثل "بتروجيت" و"المصرية للاتصالات" لسد عجز الموازنة.
لكن هذه الإجراءات لم تؤدي إلى تحسن حقيقي في الاقتصاد، بل زادت من معاناة المواطنين.
فبحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، ارتفعت نسبة الفقر إلى 35% في 2025، مقارنة بـ 26% في 2013. كما زادت البطالة بين الشباب إلى نحو 25%، رغم الادعاءات الحكومية بخلق فرص عمل.
مقارنة بخطط الإصلاح المعلنة.. فجوة بين الخطاب والواقع
عندما أعلنت حكومة الانقلاب عن برنامج الإصلاح الاقتصادي، وعدت بتحقيق نمو مستدام وتحسين مستوى المعيشة.
لكن الواقع كان عكس ذلك تمامًا. فبدلًا من تنويع الاقتصاد، زاد الاعتماد على القروض الخارجية والمشروعات الكبرى غير المنتجة، مثل العاصمة الإدارية، التي كلفت عشرات المليارات دون عائد ملموس.
كما فشلت الحكومة في معالجة الفساد الهيكلي، حيث تحتل مصر المرتبة 115 في مؤشر مدركات الفساد لعام 2024.
وأدت السياسات النقدية غير المدروسة إلى تفاقم الأزمة، حيث بلغ عجز الموازنة نحو 8% من الناتج المحلي الإجمالي في 2025، وفقًا لصندوق النقد الدولي.
شفافية الحكومة في تبرير القرارات
تفتقر الحكومة المصرية إلى الشفافية في طرح سياساتها الاقتصادية؛ فغالبًا ما تُعلن القرارات بشكل مفاجئ، دون مناقشة مجتمعية أو إتاحة البيانات الكاملة للمحللين.
على سبيل المثال، لم تُنشر تفاصيل كاملة عن شروط صندوق النقد الدولي، كما أن التقارير الرسمية تتجاهل تأثير هذه الإجراءات على الفقراء.
وعندما يتم انتقاد هذه السياسات، تلجأ الحكومة إلى اتهام المعارضين بـ"تقويض الاستقرار"، بينما تبرر الزيادات بأنها "أمر لا مفر منه".
لكن الخبراء الاقتصاديين يشككون في هذا الطرح، مؤكدين أن هناك بدائل لم تُناقش، مثل إصلاح النظام الضريبي ليكون تصاعديًا، أو محاربة الفساد في المشتريات الحكومية.
سياسات فاشلة بثمن اجتماعي باهظ
زيادة الأسعار في مصر ليست نتاج إصلاح حقيقي، بل نتيجة لتراكم السياسات الخاطئة منذ الانقلاب العسكري، والتي جعلت البلاد رهينة للقروض الخارجية.
ورغم ادعاءات الحكومة بأن هذه الإجراءات ضرورية، فإن غياب الرؤية الشاملة وعدم معالجة الفساد يجعلان الأزمة مستمرة.
في النهاية، يدفع المواطنون العاديون ثمن هذه السياسات، بينما تستمر النخبة الحاكمة في تكرار نفس الأخطاء.
وإذا استمر هذا النهج، فستزداد الأزمة الاقتصادية عمقًا، مما يهدد الاستقرار الاجتماعي في السنوات المقبلة.