بعد سنوات من الهدوء النسبي، عادت أزمة الدواء في مصر لتضرب بشراسة، لكنها هذه المرة لم تقتصر على اختفاء بعض الأدوية فحسب، بل امتدت لتطال منظومة الإنتاج والتوزيع برمّتها، وسط اتهامات بوجود "مافيا" تسيطر على السوق وتغذي السوق السوداء، في ظل تقاعس حكومي عن توفير أبسط سبل الإنقاذ.

 

أدوية منقذة للحياة... تختفي بصمت

لم تعد الأزمة تقتصر على نقص أدوية موسمية أو بدائل متوفرة، بل طالت أصنافًا حيوية لعلاج أمراض مزمنة ومستعصية مثل السرطان، أمراض القلب، الضغط، السكري، الغدة، وأدوية زراعة الأعضاء، وصولاً إلى ألبان الأطفال والمستلزمات الطبية. هذا النقص أجبر المرضى على اللجوء إلى السوق السوداء، حيث تُباع "بواقي الأدوية" بأسعار باهظة، وبعضها يحتوي على مواد مخدرة تُباع دون وصفة طبية.

 

"الدواء يحتضر"

مصدر رفيع بهيئة الدواء كشف عن تعقيدات خطيرة تهدد استمرارية الإنتاج، أبرزها تعثر هيئة الشراء الموحّد، المسؤولة عن استيراد مستلزمات الإنتاج، في تسليم الطلبيات المتفق عليها مع الشركات منذ مارس 2024، رغم حصولها على الموافقات الحكومية وتمويل بالدولار.

وتبلغ قيمة هذه الطلبيات حوالي مليار دولار، دفعتها الشركات بالجنيه، اعتمادًا على وعود حكومية بالتمويل الأجنبي، ما تسبب في أزمة سيولة خانقة لدى الشركات، اضطر بعضها لإيقاف خطوط الإنتاج أو الاتجاه للتصدير كوسيلة لتوفير العملة الأجنبية.

 

شركات تهاجر وأخرى تصرخ

في ظل الأزمة، لجأت بعض شركات الأدوية إلى تصدير إنتاجها للخارج، لضمان توفير الدولارات اللازمة لشراء الخامات، بينما تبحث أخرى عن شراكات مع مستثمرين عرب وأجانب لتأمين استمرار نشاطها. أما الشركات الصغيرة والمتوسطة، فقد أصبحت على حافة الإفلاس بعد فشل الحكومة في تنفيذ وعودها بتمويل قروض ميسرة بفائدة منخفضة.

 

احتكار رسمي وفوضى سوداء

هيئة الشراء الموحّد، التي تأسست لتكون ذراع الدولة لضبط سوق الدواء، تحولت بحسب مصادر في غرفة صناعة الدواء، إلى جهة احتكارية تهيمن على عمليات الاستيراد والتوزيع، دون مرونة أو شفافية. هذه السياسات خلقت ارتباكًا كبيرًا في مصانع الأدوية، وعززت من عمليات تهريب الدواء، وتوسعت السوق السوداء بشكل غير مسبوق.

 

الفاتورة الثقيلة.. من يدفع الثمن؟

تشير تقديرات إلى أن ديون مستشفيات الدولة لقطاع الأدوية والمستلزمات تجاوزت 15 مليار جنيه، ما دفع العديد من الشركات إلى التوقف عن إنتاج الأدوية الشعبية منخفضة السعر التي لم تعد تغطي تكاليف إنتاجها، خاصة مع ارتفاع سعر الدولار بنسبة 40% منذ مارس 2024.

وتحوّلت صيدليات المستشفيات العامة إلى مشاريع تجارية، تفضل بيع الأدوية المستوردة التي تحقق هامش ربح مرتفع، ما زاد من عبء المرضى الفقراء، ووسّع الفجوة بين القطاعين العام والخاص.

 

تغيير المعايير.. ضغوط بلا مبرر

رئيس شعبة الدواء بالغرفة التجارية، علي عوف، أشار إلى أن تغيير هيئة الدواء لمعايير الإنتاج سنويًا، ألقى بأعباء إضافية على المصانع، التي باتت عاجزة عن التكيّف مع ارتفاع أسعار الخامات، وسط تضخم متسارع وتراجع في القدرة الشرائية.

 

تحرك متأخر... أم مسكّن مؤقت؟

استجابة للضغوط، وافقت الحكومة على تدبير 1.6 مليار دولار لشراء أدوية الحالات الحرجة حتى نهاية العام المالي الحالي، إلى جانب تشكيل لجنة وزارية لحل أزمة الديون الحكومية. لكن المصنعين يعتبرون هذه الخطوات غير كافية ولا تعالج جوهر الأزمة.

 

أطباء يحذرون... والمرضى يدفعون الثمن

الدكتور مدحت خفاجي، المدير السابق لمعهد الأورام، يرى أن المصانع صارت تفضل إنتاج الأدوية الأعلى ربحًا، ما يزيد من اختفاء الأدوية الأساسية من السوق، خاصة مع اعتماد 90% من الإنتاج المحلي على خامات مستوردة، ودعا إلى تقبل الوصفات البديلة، وتقليل الإفراط في استخدام المضادات الحيوية، التي تشكل خطرًا على الصحة العامة.

 

الواقع بالأرقام:

يعمل في مصر 180 مصنعًا للدواء.

تغطي هذه المصانع حوالي 90% من حاجة السوق المحلي.

تستورد مصر 10% من الأدوية تامة الصنع، خصوصًا لعلاج السرطان والأمراض النادرة.

هيئة الشراء الموحد مدينة بـ8 مليارات جنيه لشركات التوزيع.