كان مصطفى في السادسة عشرة من عمره عندما واجه للمرة الأولى وحشية الحياة تحت حكم نظام الأسد. في عام 2011، ومع اندلاع الربيع العربي، لجأ النظام السوري إلى الدعاية الإعلامية لمواجهة الاحتجاجات. حصل مصطفى، وهو شاب وسيم يحلم بأن يصبح ممثلًا، على فرصة للمشاركة في أحد هذه الأفلام. لكن ما بدأ كيوم واعد انتهى بعنف، إذ اعتقلته الشرطة بعد التقاطه صورة بالقرب من أحد المباني الحكومية. تعرض للضرب المبرح، ليكون ذلك بداية رحلة مريرة عبر الحرب الأهلية السورية، التي استمرت 14 عامًا وأودت بحياة مئات الآلاف، وشرّدت الملايين، ودمّرت البلاد.
قصة مصطفى هي حكاية صراع من أجل البقاء، وخيانة، ومحاولات يائسة للنجاة وسط حرب اجتاحت كل شيء. من مواجهته الأولى مع الشرطة إلى تجنيده القسري في ميليشيات النظام، تعكس حياته مأساة أمة مزقتها الحرب والطائفية والتدخلات الأجنبية.
البداية القاسية: حلم محطم وضرب مبرح
نشأ مصطفى في حي شعبي بدمشق، وسط عائلة محافظة. كان والده رجلًا متدينًا صارمًا يفرض سيطرته بالعنف. في سن الرابعة عشرة، هرب مصطفى من المنزل وعمل في مطعم، حيث تكيف مع العمل الشاق والطويل. وفي سن السادسة عشرة، كان يعمل في وظيفتين ليعيل نفسه، لكنه لم يكن يعلم أن صورة واحدة ستغيّر مصيره.
بعد انتهاء تصوير الفيلم الدعائي، التقط مصطفى صورة بهاتفه دون أن يدرك أن مركزًا للشرطة ظهر في الخلفية. لم تمضِ دقائق حتى أوقفه رجال الأمن، صادروا هاتفه، وانهالوا عليه ضربًا. أطلق سراحه بعد ساعات، لكن الحادثة تركت داخله خوفًا عميقًا من السلطات.
الانتفاضة وبداية الحرب
مع تصاعد الاحتجاجات في مارس 2011، واجه النظام السوري المظاهرات بالقمع الدموي. كان مصطفى منشغلًا بعمله ولم يشارك في الاحتجاجات، لكنه عاش في خوف دائم من الاستهداف. وعندما تحولت الانتفاضة إلى حرب شاملة، أصبح منزله عرضة للمداهمات، حيث اقتحمت الميليشيات الموالية للنظام منزل أسرته، واعتقلت إخوته المنضمين للمعارضة.
أُجبر مصطفى على الانضمام إلى "اللجان الشعبية"، وهي ميليشيا تابعة للجيش السوري، وعُيّن في نقطة تفتيش، حيث شهد بنفسه كيف حاصر النظام الأحياء المعارضة، ومنع دخول الغذاء والدواء.
حصار الغوطة الشرقية: كارثة إنسانية
كان حصار الغوطة الشرقية من أكثر فصول الحرب وحشية. لسنوات، قصف النظام المنطقة وحرم سكانها من أبسط سبل العيش. عايش مصطفى مآسي المدنيين الذين لجأوا لأكل أي شيء للبقاء على قيد الحياة، حتى الحيوانات البرية. وسط الدمار والجوع، أصبح البقاء مجرد مسألة حظ.
الاعتقالات والرشاوى: حلقة مفرغة
في عام 2017، اعتقلت الشرطة العسكرية مصطفى لعدم امتثاله للخدمة الإلزامية، رغم أنه كان يخدم بالفعل في الميليشيات. قضى شهرين في زنزانة مكتظة، حيث كان الجوع والتعذيب روتينًا يوميًا. وبعد الإفراج عنه، أُعيد إلى الخدمة في وحدة عسكرية جديدة، حيث التقى أشرف، الضابط الشاب الذي عامله بإنسانية نادرة. كلاهما فقد إيمانه بالحرب، التي بدت لهم مجرد لعبة في أيدي القوى الأجنبية.
انهيار النظام والفرار من الجيش
بحلول أواخر عام 2024، كان الجيش السوري ينهار. شنت المعارضة، التي أصبحت قوة عسكرية منظمة، هجومًا كبيرًا أطاح بمواقع النظام بسرعة. سقطت حلب خلال 36 ساعة فقط، ووجد مصطفى وأشرف نفسيهما محاصرين بين قوات المعارضة والسكان المحليين المسلحين. لم يكن أمامهما سوى خيارين: القتال أو الفرار. في ديسمبر، قررا خلع زيّهما العسكري والهروب نحو دمشق.
كان سقوط النظام لحظة تحرر بالنسبة لمصطفى. قال: "شعرت بأنني حر. لم أكن أهتم بتحرير سوريا، كل ما كنت أفكر فيه هو أنني تحررت". لكنه سرعان ما أدرك أن الواقع الجديد لم يكن أفضل حالًا.
الانتقام وعدم اليقين
بعد سقوط الأسد، اندلعت أعمال انتقامية، حيث استُهدفت قرى العلويين، التي كانت معقلًا لمؤيدي النظام. عاش أشرف في خوف من المقاتلين الجدد الذين جابوا الشوارع بحثًا عن "الخونة". أما مصطفى، فقد اعتُقل لفترة وجيزة من "هيئة تحرير الشام" (HTS) بسبب امتلاكه تصريح سلاح قديم، قبل أن يُطلق سراحه.
لكن مأساته لم تنتهِ عند هذا الحد. فقد كل شيء—زوجته، طفله، وأمواله. لم يكن لديه خيار سوى الانضمام إلى جهاز الأمن التابع لهيئة تحرير الشام، فقط ليضمن البقاء على قيد الحياة.
بلد في أنقاض
تركت الحرب سوريا في حالة دمار تام. ورغم انتهاء عهد الأسد، إلا أن المستقبل لا يزال مجهولًا. بالنسبة لمصطفى وأشرف، كانت الحرب دائرة لا تنتهي من العنف والخيانة والبقاء.
وقال مصطفى: "لا يمكنك النجاة وحدك في هذا البلد". في بلدٍ تلاشت فيه الحدود بين الضحية والجلاد، أصبح البقاء على قيد الحياة مرهونًا بتقديم التنازلات لمن كانوا يومًا ما أعداء. أما إعادة الإعمار والمصالحة، فهما تحديان لا يزالان بعيدين المنال.