في شبابه، قضى يفجيني بريجوجين تسع سنوات في السجن بتهم السرقة والاحتيال. بعد الإفراج عنه، زعم أنه بدأ ببيع النقانق حتى جمع ما يكفي من المال لدخول قطاع المطاعم، حيث افتتح مطعماً في سانت بطرسبورج وأصبح وجهة مفضلة لرئيس الوزراء آنذاك، فلاديمير بوتين.
هذه العلاقة الخاصة فتحت له أبواب العقود الحكومية المربحة، إذ أصبحت شركاته مسؤولة عن توفير الطعام للمدارس والجيش الروسي.

لكن في عام 2014، لم يكتفِ بريجوجين بتوفير الوجبات، بل بدأ بتوريد المقاتلين أيضًا. عقب ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم، دعمت وزارة الدفاع الروسية مجموعات مرتزقة للقتال في شرق أوكرانيا.
هنا التقى بريجوجين بدميتري أوتكين، وهو ضابط سابق يحمل الاسم الحركي "فاجنر"، والذي أصبح لاحقًا اسمًا لمجموعة المرتزقة التي أنشأها الاثنان.
سرعان ما أثبتت فاجنر كفاءتها في المعارك وقدرتها على تنفيذ عمليات اغتيال ضد القادة غير الموالين في المناطق الانفصالية.

لكن بعد توقيع اتفاقية مينسك الثانية في 2015، قلّت الحاجة إلى خدمات فاجنر في أوكرانيا، وكادت المجموعة أن تتفكك. غير أن بريجوجين، الطموح، كان يسعى لتأسيس قوة مرتزقة خاصة شبيهة بشركة بلاك ووتر الأمريكية.
وجاءته الفرصة مع التدخل الروسي في سوريا.
 

فرصة سانحة في سوريا
   
عندما اندلعت الاحتجاجات في سوريا عام 2011، ردّ نظام بشار الأسد بقمع وحشي، ما أدى إلى اندلاع حرب أهلية.
في البداية، حافظت موسكو على حوار مع المعارضة السورية، فيما هددت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما بالتدخل في حال استخدم الأسد الأسلحة الكيميائية.
وفي صيف 2013، شن النظام السوري هجومًا بغاز السارين على الغوطة، ما أسفر عن مقتل 1400 شخص. لكن بدلاً من التدخل العسكري، عقدت روسيا صفقة مع الغرب لنزع الأسلحة الكيميائية السورية، مما سمح لموسكو بتقديم نفسها كوسيط مسؤول.

في هذه الأثناء، كان رجال الأعمال السوريون يبحثون عن سبل لحماية مصالحهم. الأخوان محمد وأيمن جابر، المقربان من عائلة الأسد، كانا من بين أول من استعان بالمرتزقة.
ومع إضفاء النظام السوري الشرعية على عمل الشركات الأمنية الخاصة، أبرم الأخوان صفقة مع مجموعة موران، وهي شركة عسكرية روسية خاصة. وهكذا، تم إنشاء "فيلق سلافي" كواجهة للمرتزقة الروس في سوريا.
 

الفشل الأولي لفاجنر في سوريا
   
في 2013، أرسل فيلق سلافي مجموعة من المرتزقة إلى سوريا لحماية المنشآت النفطية، لكنهم سرعان ما وجدوا أنفسهم في قلب معركة مع تنظيم داعش في دير الزور.
انتهى الأمر بانسحاب المرتزقة تحت نيران كثيفة، وتم اعتقالهم لاحقًا في موسكو بتهمة العمل كمرتزقة، وهو أمر غير قانوني بموجب القانون الروسي.
لكن هذه التجربة علّمت أوتكين درسًا مهمًا: المرتزقة الروس قادرون على القتال بفعالية في ظروف صعبة، بشرط توفر المعدات والقيادة المناسبة.
 

عودة فاجنر إلى سوريا بقوة
   
في عام 2015، ومع تدخل روسيا رسميًا في الحرب السورية لدعم الأسد، وصلت أولى وحدات فاجنر إلى البلاد.
لعبت المجموعة دورًا حيويًا في تدريب قوات النظام وتنفيذ العمليات القتالية، لكنها لم تكن تحظى بالاعتراف الرسمي من الجيش الروسي.
كانت مهمتهم الأولى هي دعم ميليشيا "صقور الصحراء" التابعة للأخوين جابر، لكن سرعان ما ظهرت التوترات بين الطرفين بسبب افتقار القوات السورية للانضباط.

في إحدى المعارك عام 2016، تخلّت قوات صقور الصحراء عن مواقعها، تاركة قوات فاجنر لمواجهة العدو وحدها؛ رغم ذلك، نجح المرتزقة في التقدم والسيطرة على بلدة كنسبا الاستراتيجية.
وفي مارس من نفس العام، شاركت فاجنر في استعادة مدينة تدمر من قبضة تنظيم داعش، في معركة كانت اختبارًا حقيقيًا لكفاءة المجموعة.

لكن بعد هذا الانتصار، نُسب الفضل بالكامل للجيش الروسي، وتم تجاهل تضحيات مرتزقة فاجنر، الذين فقدوا 40 مقاتلاً وأصيب 120 آخرون.
كانت هذه لحظة إدراك بالنسبة لبريجوجين: إذا أراد تثبيت مكانته داخل النظام الروسي، فعليه تحقيق استقلال مالي عن وزارة الدفاع.
 

صفقة النفط وتحرر فاجنر من الجيش الروسي
   
في ديسمبر 2016، شن تنظيم داعش هجومًا مفاجئًا واستعاد تدمر، مما شكّل إحراجًا كبيرًا لموسكو. احتاج النظام السوري إلى دعم جديد، لكن بدلاً من الاعتماد على الجيش الروسي، وقع الأسد اتفاقًا مع شركة بريجوجين "إيفرو بوليس" يمنحها 25% من عائدات حقول النفط التي تستعيدها من المسلحين.

لم تكن هذه الصفقة مجرد مكسب مالي، بل منحت فاجنر استقلالية عن وزارة الدفاع الروسية، ما سمح لبريجوجين بتوسيع نفوذه في سوريا وخارجها.
ومع ازدياد اعتماد النظام السوري على فاجنر، أصبحت المجموعة لاعبًا رئيسيًا في الصراع، ليس فقط كقوة عسكرية، ولكن كشركة أعمال تستفيد من ثروات الحرب.
 

صدام مع الولايات المتحدة
   
رغم النجاحات التي حققتها فاجنر في سوريا، إلا أن استقلالها المتزايد أدى إلى مواجهة مباشرة مع القوات الأمريكية.
في فبراير 2018، حاولت فاجنر، مدعومة بقوات موالية للنظام السوري، الاستيلاء على حقل كونيكو للغاز في دير الزور، لكن التحرك قوبل برد عنيف من القوات الأمريكية، التي استخدمت الطائرات والمدفعية الثقيلة لتدمير القافلة الروسية، ما أسفر عن مقتل العشرات من المرتزقة.

كانت هذه الحادثة بمثابة رسالة واضحة: رغم كل ما حققته فاجنر، فإنها لا تزال مجرد أداة تُستخدم عندما يكون ذلك مناسبًا للكرملين.
 

الإرث الذي تركته فاجنر في سوريا
   
بحلول عام 2020، أصبحت فاجنر أكثر من مجرد شركة مرتزقة، بل قوة سياسية واقتصادية لها مصالح في مناطق متعددة، من إفريقيا إلى فنزويلا.
وقد استفادت روسيا من خبرتها في سوريا لنشر نموذج "الإنكار المعقول"، حيث يُستخدم المرتزقة لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية دون تحمل المسؤولية رسميًا.

لكن في النهاية، تظل فاجنر جزءًا من آلة النفوذ الروسية، تُستخدم عندما تخدم المصالح، ويمكن التخلي عنها عندما تصبح عبئًا. التدخل في سوريا كان نقطة انطلاق المجموعة، لكنه كشف أيضًا حدود قوتها واستقلالها عن الكرملين.

https://foreignpolicy.com/2025/03/07/wagner-group-prigozhin-russia-mercenaries-syria-pmc-utkin/?tpcc=recirc_latest062921#fn:2