خلال حفل تنصيبه، عبّر ترامب بوضوح عن رغبته في أن يُذكر في التاريخ كـ"صانع سلام"، على عكس إرث سلفه الذي أشعل الحروب في العالم. وقد تفاخر بالضغوط التي مارسها والتي أدت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين الفلسطينيين والاحتلال الصهيوني قبل يوم واحد فقط من تنصيبه، مشيرًا إلى أنه نجح في تحقيق ما فشل بايدن في تحقيقه على مدى الأشهر الطويلة من الحرب، وفي فترة قصيرة جدًا.
تحدث ترامب في مؤتمرات صحفية عديدة عن الدمار الذي حل بقطاع غزة، مدعيًا أنه سيعمل على إعادة بنائه بمساعدة شركاء آخرين في المنطقة.
ولضمان استمرار وقف إطلاق النار، يقوم مبعوثه الخاص، ستيف ويتكوف، بالإشراف المباشر على تنفيذ الاتفاقيات المبرمة على الأرض.
كما أعلن مبعوثه عن نيته زيارة قطاع غزة لتقييم الوضع شخصيًا هناك ومشاهدة الدمار الذي خلفته الحرب.
في البداية، رحبنا بموقف ترامب ومبعوثه الخاص، حيث بدا أنهما مصممان على عدم السماح باستمرار إراقة دماء المدنيين الأبرياء، والدمار العشوائي، وتشريد الناس وتجويعهم.
ومع ذلك، لم يتطرقا أبدًا لمعاناة الناس على مدار 15 شهرًا من الإبادة الجماعية خلال مؤتمراتهما الصحفية، بينما ركز ترامب على أصغر التفاصيل لتسليط الضوء على معاناة الصهاينة، مثل ذكر صورة لسجينة محررة فقدت أحد أصابعها.
يتعامل ترامب ومبعوثه الخاص، كما وصفت التقارير الإعلامية، مع قضايا خطيرة بعقلية تجارية عدوانية، حيث يمارسون ضغوطًا علنية على الجانب الفلسطيني عبر التهديدات والترهيب، بينما يستخدمون تصريحات ضمنية في الإعلام ويمارسون ضغوطًا صريحة على نتنياهو خلف الأبواب المغلقة، مما أدى إلى قبول نتنياهو باتفاق وقف إطلاق النار.
عند النظر في تفاصيل الاتفاق، يبدو أن قبول نتنياهو للصفقة لم يأتِ دون مقابل. حيث أصدر ترامب، فور توليه منصبه، أمرًا تنفيذيًا بإلغاء جميع العقوبات التي فرضتها الإدارة السابقة على المستوطنين والكيانات الاستيطانية المتهمة بارتكاب أعمال عنف ضد الفلسطينيين.
علاوة على ذلك، يبدو بوضوح أن ترامب منح نتنياهو حرية مطلقة لشن عمليات واسعة النطاق في الضفة الغربية، أطلق عليها اسم "السيوف الحديدية"، وهي عملية لا تزال مستمرة، وهدفها المعلن هو القضاء على من يُطلق عليهم "الخارجين عن القانون".
خلال الإبادة الجماعية في غزة، استمرت شحنات الأسلحة من الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، بلا توقف. وبدون هذه الإمدادات، لم يكن بإمكان نتنياهو مواصلة ارتكاب جرائمه.
ومع ذلك، وتحت ضغوط متزايدة، قررت بعض الدول، بما في ذلك بريطانيا، وقف تصدير أنواع معينة من الأسلحة بشكل رمزي.
كما قرر بايدن تعليق تصدير 1800 قنبلة MK-84، التي تزن كل واحدة منها 2000 رطل، بسبب الخسائر البشرية الكبيرة التي تسببها.
وعلى الرغم من هذا القرار الرمزي، الذي اتُخذ في مايو، إلا أنه لم يؤثر على مسار الإبادة الجماعية. استمرت الآلة الحربية الصهيونية في قصف غزة برًا وبحرًا وجوًا بأطنان من الذخائر المتنوعة، ما أدى إلى ارتكاب مجازر ضاعفت أعداد القتلى وتسببت في دمار واسع النطاق في قطاع غزة.
واستمر ذلك حتى دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 19 يناير 2025، الذي يبدو أن إحدى بنوده غير المعلنة تضمنت رفع الحظر عن القنابل المميتة MK-84.
يوم الجمعة الماضي، كشفت مصادر صهيونية لموقع "أكسيوس" أن إدارة ترامب ألغت قرار بايدن المذكور، وأن شحنة القنابل كانت في طريقها إلى الكيان الصهيوني.
كل هذه القرارات التي اتخذتها إدارة ترامب بعد اتفاق وقف إطلاق النار، إلى جانب تعيين مسؤولين معروفين بمواقفهم المؤيدة للاحتلال الصهيوني والمعادية لحقوق الفلسطينيين، تؤكد أن ترامب شخص مخادع يتماشى مع مشاريع الصهاينة المتطرفين.
فهو لا يريد حقًا أن يُذكر كصانع سلام في الشرق الأوسط وفقًا للقانون الدولي، بل وفقًا لمعايير الكتب الدينية.
وأبرز دليل على ذلك هو البيان المفاجئ الصادر عن البيت الأبيض يوم الأحد، 25 يناير 2025، والذي كشف عن مناقشات ترامب مع ملك الأردن بشأن نقل "عدد من" سكان غزة إلى الأردن والدول المجاورة.
كما ذكر البيان خططًا لمناقشات مماثلة بين ترامب والسيسي.
وقد رحب بن غفير وسموتريتش بسرعة بهذه التصريحات، معتبرين إياها تجسيدًا لخططهم التي أرادوا تنفيذها منذ بداية الإبادة الجماعية.
يشير هذا النوع من التفكير المتهور والمعادي لمصالح الشعوب الأخرى، إلى جانب الجرأة على اقتراح مثل هذه المخططات دون اعتبار لتداعياتها الكارثية، إلى عقلية المهاجر الذي لا يزال يعيش في عصر أجداده الذين أسسوا دولة مهاجرين على حساب قتل السكان الأصليين.
هذه العقلية تتجاهل أهمية استقرار المنطقة والأنظمة الإقليمية التي قامت بفضل الاستعمار الغربي، والتي تكون دائمًا عرضة للابتزاز.
يرفض الشعب الفلسطيني، الذي خرج للتو من إبادة جماعية ويكافح بشدة لإعادة بناء حياته كما كانت قبل الإبادة، جميع مشاريع التهجير.
وهم عازمون على إعادة بناء ما دمره الاحتلال وإفشال محاولات حكومة نتنياهو لتقويض اتفاق وقف إطلاق النار، الذي عملت جاهدة من البداية على تقويضه.
قرارات ترامب ومشروع التهجير تتماشى مع خطة نتنياهو للعودة إلى القتال في قطاع غزة.
فلا يمكن لصانع سلام حقيقي في المنطقة أن يزود آلة الحرب التي ارتكبت أبشع الجرائم بالقنابل القاتلة، أو أن يقترح مخططات تهجير، أو أن يمنح الاحتلال الصهيوني تفويضًا مطلقًا لإحداث الفوضى في الضفة الغربية لتحقيق مشروعها القديم-الجديد المتمثل في ضم الضفة.
إذا اختارت الأنظمة الشرق أوسطية أن تكون خاضعة لترامب وغيره، ومستعدة لتنفيذ مطالبهم ودفع المليارات كإتاوات لإرضائهم، فإن شعوب المنطقة، وعلى رأسهم الفلسطينيون، يرفضون بشكل قاطع هذه المشاريع؛ فهم أصحاب الأرض وبناؤوها، وليسوا مجرد مجموعة من المهاجرين الباحثين عن مرعى.
في التراث العربي، الوطن ليس مجرد حقيبة من المتاع أو مكان مادي فقط. بل هو حالة عاطفية وروحية عميقة تمثل الهوية والشعور بالانتماء. والنفي أو التهجير يعادل الموت.
https://www.middleeastmonitor.com/20250127-is-trump-a-peacemaker-or-a-warmonger/