الحرص على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة أداة تلجأ إليها حكومات معظم دول العالم والعديد من الاقتصاديات، سواء المتقدمة منها أو النامية، بما فيها مصر التي تعاني أزمات معيشية ومالية متكررة، وذلك منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي، مع بداية نظام العولمة، وسيادة النظام الاقتصادي الرأسمالي، وذلك بهدف جذب الأموال والخبرات الخارجية وتوفير فرص عمل.

إلا أن التجربة أسفرت عن نتائج مختلفة لدور الاستثمارات الأجنبية في الاقتصاديات التي قبلت بوجوده، فهناك نوع وظف تلك الاستثمارات وفق أولويات التنمية لديه، وحدد القطاعات التي تعاني من نقص التمويل أو التكنولوجيا، وفتح المجال فيها للاستثمارات الخارجية ، مع بعض الضوابط، التي ترتبط بجلب رؤوس أموال جديدة، أو توفير فرص عمل لأبناء الوطن، أو توطين التكنولوجيا المتطورة.

وهناك نوع آخر، ترك الباب على مصراعيه، للاستثمارات الأجنبية التي مارست الاحتكارات في الأسواق المحلية، وعملت على إخراج الصناعات الوطنية من الأسواق في ظل غياب تنظيم قواعد المنافسة، كما كانت تلك الاستثمارات عبئاً على ميزان المدفوعات، لإخراجها أرباحها السنوية بالعملات الأجنبية وتحويلها إلى الخارج أولاً بأول.

وترتب على هذه الممارسات المختلفة أن الدول التي رتبت مشاركة الاستثمار الأجنبي في اقتصادياتها، تمكنت من حصاد إيجابياته، بينما الدول التي افتقدت لترتيب أجندتها التنموية لتوظيف الاستثمار الأجنبي، استمرت في إطار التبعية، وإحكام حلقات مشكلاتها الاقتصادية من ديون وعجز ميزان المدفوعات وزيادة معدلات البطالة والفقر.
 

تجربة الاستثمارات في مصر
   
تشير الأرقام الخاصة لوزارة المالية المصرية، خلال الفترة 2014/ 2015 – 2022/ 2023 إلى أن أداء تدفق صافي الاستثمارات الأجنبية المباشرة لمصر تراوح ما بين 6.3 مليار دولار، و10 مليارات دولار، إلا أن عام 2023/ 2024 مثل طفرة في أداء تلك الاستثمارات، إذ بلغت 46 مليار دولار.

لكن أداء الاستثمارات الأجنبية عام 2023/ 2024 يعكس حالة وليست ظاهرة، بسبب إبرام صفقة رأس الحكمة لصالح دولة الإمارات، والتي قدرت قيمتها بنحو 35 مليار دولار، وبذلك لا يقاس عليها، إلا إذا تمكنت حكومة مصر عبر اتفاقها الجاري التفاوض بشأنه مع قطر أو السعودية، أن تحصل على مبلغ مماثل أو قريب منه.

فعلى الرغم من صفقة رأس الحكمة، وما حققته من تخفيف حدة الأزمة المالية في مصر واضطرابات سوق الصرف الأجنبي، إلا أن الوضع الاقتصادي عانى مشكلات، وتسعى مصر للوصول إلى إنهاء مشكلاتها مع صندوق النقد الدولي، والذي يحمل شروطاً جديدة، على رأسها تسريع برنامج الخصخصة، وتبني سعر صرف مرن لا يتدخل فيه البنك المركزي.

وحسب بيانات التقرير السنوي للبنك المركزي المصري عن العام المالي 2022/ 2023، فإن قطاع البترول يأتي في صدارة القائمة لتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، ثم القطاع الخدمي (العقاري، والتشييد، والمالي) ثم قطاع الصناعة، ثم قطاع الزراعة.

وبشكل عام، استقبلت مصر استثمارات أجنبية في مجالات عدة، غير البترول والغاز والطاقة المتجددة وغيرها، مثل الأدوية والأسمنت والمنظفات، ومؤخراً الأسمدة والكيماويات، ولكن هذه الاستثمارات ركزت على السوق المحلي المصري، ولم تستهدف التصدير، كما أنها لم تستجلب تكنولوجيا جديدة.

بل أصبحت هذه الاستثمارات عبئًا على ميزان المدفوعات المصري، فأرقام الميزان لعام 2023/ 2024، تبين أن المستثمرين الأجانب أخرجوا مبلغ 19.4 مليار دولار، كأرباح وفوائد خلال العام، وهو مبلغ كبير بالنسبة لاقتصاد دولة تعاني مشكلات اقتصادية ومالية مثل مصر.

ومما يدلل على غياب دور مؤثر للاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد المصري، معاناة البلاد في عجز الميزان التجاري، وهو الفارق بين الصادرات والواردات، فخلال الفترة 2014/ 2015 – 2023/ 2024، كان العجز التجاري في أقل تقديراته بحدود 31 مليار دولار في 2022/ 2023، ويرجع سبب تراجع العجز عند هذا الحد، إلى أزمة البلاد في تدبير النقد الأجنبي، بينما بلغ العجز أعلى حد له عام 2021/2022 عند 43.3 مليار دولار.

ولم تنجح الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ومن قبلها السياسات الاقتصادية للحكومات المصرية المتعاقبة، في تحسين هيكل الصادرات والواردات المصرية، بحيث يحقق فائضًا، أو يقلل العجز بالميزان التجاري عند معدلات مقبولة، لا ترهق ميزان المدفوعات. فالاستثمارات الأجنبية، للأسف تأتي في مجالات الصناعات الاستخراجية أو الصناعات التقليدية، أو القطاع الخدمي الريعي، بينما فشلت السياسات الاقتصادية المصرية ومعها الاستثمارات الأجنبية، في إنتاج العدد والآلات أو مستلزمات الإنتاج في مصر.
 

جديد الاستثمارات الأجنبية في مصر
   وفق بعض وسائل الإعلام المصرية والعربية، فإن ثمة اتفاقاً مرتقباً بين حكومتي مصر وقطر بشأن تنفيذ مشروع استثماري بمبلغ مالي كبير، وفق تصريح محمد الحمصاني، المتحدث باسم الحكومة المصرية، وقد يشمل الاتفاق الاستثمار العقاري ومجالات السياحة والضيافة، وكذلك الموانئ والمناطق اللوجستية. وهناك أيضاً حديث حول استثمار سعودي ضخم في رأس جميلة.

وتأتي هذه الأنباء، بعد أن أبرمت مصر في مارس 2024 اتفاقاً مع دولة الإمارات للاستثمار في منطقة رأس الحكمة، في منطقة مرسى مطروح، بتكلفة قدرت بنحو 35 مليار دولار، ساعدت مصر بشكل ملحوظ على تخفيف حدة أزمتها المالية. إلّا أن الملفت للنظر أن وسائل إعلام نقلت عن مسؤول روسي أن 14 شركة من بلاده تعمل في مجال الإنشاء والبناء، تستعد لاقتحام السوق المصري.

وبلا شك فإن وجود رؤوس الأموال من السعودية وقطر والإمارات وغيرهما من الدول مهم بالنسبة لمصر، لكن السؤال هو: ما هي القطاعات التي تحتاج مصر فيها إلى وجود الاستثمارات الأجنبية، في ظل أزمتها المالية والاقتصادية الحالية؟

إن أزمة مصر المالية والاقتصادية تأتي من أمرين، الأول ينبع من سوء إدارة وتخطيط النشاط الاقتصادي، مما حولها لدولة تعتمد على الخارج بشكل كبير، واعتماد اقتصادها على النشاط الريعي، وضعف أدائها الإنتاجي، والأمر الثاني هو سوء إدارة أوضاعها المالية، سواء فيما يتعلق بالموازنة العامة للدولة، أو بتنفيذ مشروعات ليست ذات أولوية في المرحلة الحالية، أو في المدي المتوسط.

وكان الأولى أن يكون لمصر أجندة تنموية، تركز على استقطاب رؤوس أموال في القطاعات الإنتاجية للزراعة والصناعة، أو إنتاج التكنولوجيا، فليس من بين احتياجات مصر الآن، ضح استثمارات في قطاع العقارات السياحية، ولا في مجالات الضيافة والفندقة، بل الأولوية للقطاعات الإنتاجية والصناعية والتصديرية أو تلك التي تقلل من فاتورة الواردات.

حتى لو جرى استقبال رؤوس أموال أجنبية في قطاع العقارات، فالأولى به الشرائح الإسكانية التي تمثل معضلة للطبقتين المتوسطة والفقيرة، فالإسكان الفاخر والسياحي ليس ضرورة ملحة في مصر في ظل ضخامة المعروض، إلا إذا كانت تلك الاستثمارات التي تخطط للعمل في الإسكان السياحي والفاخر تستهدف الأجانب وليس الشعب المصري، وهنا يقفز التساؤل عن جدوى تلك الاستثمارات، ماذا استفاد المجتمع المصري وفي المقدمة المواطن؟

كما أن مصر لديها شركات كبرى في مجالات البناء والتشييد، منذ منتصف العقد الماضي، مثل شركات "المقاولون العرب"، وحسن علام، ومختار إبراهيم، والنصر العامة، وغيرها الكثير، وتعاني مصر الآن من حالة ركود في القطاع العقاري، بل وتسعى مصر للحصول على عقود مقاولات كبيرة في العراق والكويت والدول الأفريقية.

فهل ستأتي الشركات الروسية، لتزاحم الشركات المصرية العاملة في مجال المقاولات والبناء والتشييد، التي تعاني من الركود؟ أم أن هذه الشركات سيسند إليها تنفيذ بعض أعمال تمثل استثمارات روسية في مصر؟ فحتى لو كان دور تلك الشركات المهمة الثانية، فمن صالح مصر وشركات المقاولات بها، أن تسند إليها تنفيذ الأعمال الخاصة بالاستثمار الروسي، وذلك للخروج من حالة الركود التي يعاني منها القطاع، والمساهمة في رفع معدلات التشغيل.

تتكرر ملاحظة غياب التخطيط للأوضاع الاقتصادية في مصر بالمجالات المختلفة، ولكن مصر لم تعد تملك رفاهية الوقت لاستمرار هذا الوضع، ففي كل أزمة تمر بها مصر، تفرط في أصولها الرأسمالية، من أجل الحصول على سيولة دولارية لحل أزمة آنية، بينما الأجيال القادمة ستعاني بشكل كبير، سواء من بيع الأصول العامة أو سوء إدارة الاقتصاد.