أولادنا أكبادنا تمشي على الأرض نحبهم ونؤثرهم على أنفسنا؛ وإن تربية الأولاد على النحو الذي يوجبه الإسلام هو حق من حقوق الأطفال وواجب على الوالدين.
ومن تمام هذه التربية أو من وسائلها أن تكون معاملة الوالدين لأولادهم على نحو معين وبأسلوب خاص دل عليهما الشرع الإسلامي.
والمراد بتربية الأولاد في الإصلاح الفقهي قائم على معناها اللغوي وهو القيام على الأولاد بما يؤدبهم ويصلحهم، ويتحقق ذلك بتعليمهم ما يلزمهم من أمور الدين والدنيا، وتأديبهم بآداب وأخلاق الإسلام، وتكون شخصيتهم الإسلامية.
وهذه المعاني الثلاثة في الواقع تقوم على المعنى اللغوي (للتربية)، إذ بهذه المعاني وتحصيلها يتحقق القيام الحسن بأمور الأولاد ويحصل المقصود من تربيتهم.
ومن هذه الحقوق :
- تعليم الأولاد أمور الدين: و الدليل على ذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ..... (التحريم: 6).
قال بعض أهل العلم: فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير ومالا يستغني عنه من الأدب”.
وقد أخرج الإمام البخاري في “صحيحه” عن أبي بردة عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: “ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد ﷺ، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها، ثم اعتقها فتزوجها فله أجران”.
وقد ترجم الإمام البخاري لهذا الحديث بقوله: (باب تعليم الرجل أمته وأهله).
ولا يكتفي الوالدان بتعليمهم أولادهم أمور الإسلام نظريًا فقط، بل يطلبان منهم تطبيق ما يمكن تطبيقه فعلاً، فيأمرانهم بالصلاة مثلاً كما أمر رسول الله ﷺ بقوله: “مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع” رواه الإمام أحمد وأبو داود. [الجامع الصغير” للسيوطي ج1، 462]. - تعليم الأولاد القرآن الكريم: ينبغي للوالدين أن يعلما أولادهما الذكور والإناث القرآن الكريم قراءة فيه وحفظًا له أو لبعضه وتفسيرًا لمعانيه، فهو أصل الإسلام ومرجع الدين، وسواء كان هذا التعليم من قبل الوالدين أو من قبل غيرهما كمعلم أو معلمة المكتب لتعليم الصبية القرآن .
- تعليم الأولاد فرائض الإسلام: روى الإمام الترمذي عن أبي هريرة قال، رسول الله ﷺ قال: “تعلموا الفرائض والقرآن وعلموا الناس فإني مقبوض” [“جامع الترمذي” ج6، ص265].
وجاء في شرحه: تعلموا ما افترض الله على عباده وتعلموا القرآن وعلموا الناس المذكور فإني “مقبوض” أي يقبضني الله ويميتني [“تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي” ج6 ، ص565].
وتعليم الأولاد يكون بقد ما يناسب عقولهم. - إسماع الأولاد الألفاظ الطيبة: ويستحسن إسماع الأولاد الألفاظ الإسلامية ذات المعاني الشرعية مثل لفظ الجلالة وأسماء الله الحسنى، وكلمة الشهادتين، والقرآن الكريم والكعبة المشرفة ونحو ذلك من الألفاظ الإسلامية ليتعود عليها الولد، وتعلق بذهنه معانيها ويحفظها ويرددها.
- وينبغي للأم عندما تريد تنويم طفلها أو تهدئته بالغناء له أن تستعمل الألفاظ الإسلامية وأن تنشد له الأبيات الشعرية البسيطة ذات الألفاظ والمعاني الدينية التي فيها اسم الله ورحمته وقدرته وحفظه واسم نبيه وكتابه المجيد ونحو ذلك؛ ليعتادها سماعًا ويتعلمها نطقًا ويرددها مع نفسه أو مع غيره.
- تعليمهم بعض الأدعية المأثورة: وينبغي للوالدين أن يعلما ولدهما بعض الأدعية المأثورة التي جاءت بها السنة النبوية والتي تقال في مناسبات ومواضع معينة كالتي تقال عند سماع الأذان، أو عند النوم، أو عند الاستيقاظ.. إلخ [“كتاب الكلم الطيب” لابن تيمية، و “سنن ابن ماجة” ج2، ص1278، و “جامع الترمذي” ج7، ص478].
ومن هذه الأحاديث النبوية:
أ- أن يقول عند النوم: “باسمك اللهم أموت وأحيا”. وإذا استيقظ من منامه قال: “الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور”.
ب- وإذا فرغ من طعامه يقول: “الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين”.
ج- وإذا عطس قال “الحمد لله” فيقال له: “يرحمك الله” فيرد بقوله: “يهديكم الله ويصلح بالكم”.
د- إذا خرج من بيته فليقل: “بسم الله. لا حول ولا قوة إلا بالله“.
هـ- وإذا سمع المؤذن؛ قال مثل ما يقول، وإذا قال المؤذن “حي على الصلاة” قال السامع: “لا حول ولا قوة إلا بالله” وإذا قال المؤذن “حي على الفلاح”؛ قال السامع: “لا حول ولا قوة إلا بالله” فإذا فرغ المؤذن من أذانه قال السامع: “اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه الله المقام المحمود الذي وعدته” وغير ذلك من الأدعية المأثورة.
- تعليمهم ما يحتاجونه من أحكام الإسلام: وينبغي للوالدين أن يعلموا أولادهم ما يحتاجونه لأنفسهم من أحكام الإسلام مثل: كيفية الاستنجاء والوضوء ومعرفة نواقضه، والصلاة وما يلزم فيها ولها، والصوم وبعض أحكامه ونحو ذلك وسواء كان هذا التعليم من قبل الوالدين أو بإرسالهم إلى من يعلمونهم ذلك.
- وعلى الأم أن تعلم ابنتها ما تحتاجه من أحكام الإسلام المتعلقة بالنساء مثل الحيض، والغُسل منه عند مقاربتها البلوغ، كما تعلمها ما يتعلق بأمور البيت وشؤونه والمستحب فيها والمكروه منها شرعًا.
- تعليمهم الحرف الدنيوية: ويقوم الوالدان بتعليم أولادهم الحرف أو الصنائع الدنيوية المباحة التي يحتاجونها بما يناسبهم ويليق بهم، وبهذا صرح الفقهاء.
- تعليمهم اللغات الأجنبية: ومن الأمور الدنيوية المباحة تعليم الولد لغة أجنبية أو أكثر، وإذا نوى في تعليمه ذلك منفعة المسلمين أثيب على نيته وعمله، وكذلك إذا نوى الولد بتعلمه اللغة الأجنبية منفعة المسلمين أثيب على نيته وعمله.
ويدل على جواز أو استحباب تعلم المسلم اللغات الأجنبية ما أخرجه الإمام الترمذي في “جامعه” عن زيد بن ثابت قال: “أمرني رسول الله ﷺ أن أتعلم السريانية” وفي رواية أخرى عن زيد بن ثابت قال: “أمرني رسول الله ﷺ أن أتعلم له كلمات من كتاب يهود، وقال: إني والله ما آمن يهود على كتابي؛ قال زيد فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له؛ قال: فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم” [“جامع الترمذي” ج7، ص497 – 498]. - القيام على التأديب : الأدب في اللغة رياضة النفس بالتعليم والتهذيب على ما ينبغي.
والمراد بتأديب الأولاد هو نفس المعنى اللغوي للأدب والتأديب أي تهذيبهم ورياضة نفوسهم على محاسن الأخلاق والعادات وحملها على مكارم الأخلاق ولكن وفقًا لمعاني الشرع الإسلامي وموازينه.
وقد ندبت الشريعة الإسلامية إلى تأديب الأولاد وحثت على ذلك، وبينت أجر من يفعله، وفي هذا وردت السنة النبوية الشريفة.
فقد أخرج ابن ماجة في “سننه” عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ” قال: “أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم [“سنن ابن ماجه” ج2، ص1211]. والحديث يشمل الأولاد والبنات كما هو معروف . - وقت ابتداء تأديب الأولاد: يبدأ تأديب الوالدين أولادهن منذ الصغر، وتشتد الحاجة إلى تأديب الولد كلما أخذ يعقل التأديب والغرض منه، واحتاج إلى التأديب، وقد دل على ذلك حديث رسول الله ﷺ: “مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع”.
قال الإمام الجصاص تعليقًا على هذا الحديث الشريف: “فمن كانت سنة سبعًا فهو مأمور بالصلاة على وجه التعليم والتأديب لأنه يعقلها، وكذلك سائر الأدب الذي يحتاج إلى تعلمها” [“أحكام القرآن:” للجصاص، ج1، ص405]. - تكوين شخصية الأولاد: نريد بتكوين شخصية الأولاد جعل الواحد منهم ذكرًا كان أو أنثى، مسلمًا في تفكيره وفي قوله وفي فعله وسلوكه وأخلاقه وغايته في الحياة وفي نظرته للأمور ووزنه للأشياء، وفي علاقاته بالآخرين وفي استمساكه بالمعاني الإسلامية ولو هجرها الناس وصار هو فيها وحيدًا غريبًا، وبكلمة موجزة تكوين فرد مسلم صالح في نفسه في ميزان الإسلام والمصلح لغيره كما يريد الإسلام.
وقد قص الله علينا في القرآن الكريم موعظة لقمان لابنه على وجه الرضا والاستحسان لهذه الموعظة، فينبغي للآباء أن يأخذوا بها ويعظوا أولادهم بما جاء فيها من معاني، وهي معاني إسلامية أمر بها الإسلام وهي من معالم الشخصية الإسلامية ومعانيها ومرتكزاتها.
موعظة لقمان لابنه
أولاً التوحيد : قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (لقمان: 13)
وقال تعالى: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (لقمان: 16).
فهاتان الآيتان تتعلقان بتوحيد الله تعالى وانفراده بالربوبية والألوهية وتخبر الآية الثانية منهما عن قدرة الله وواسع علمه بحيث لو أن الحسنة أو السيئة كانت في الصغر مثل حبة خردل، وتكون مع ذلك الصغر تكون خفية في موضوع حريز كالصخرة، أو في موضع آخر في السموات أو في الأرض، فإنها لا تخفي على الله بل يعلمها ويظهرها للأشهاد، فإنه تعالى (لطيف) أي نافذ القدرة (خبير) أي عالم ببواطن الأمور [“تفسير الرازي” ج25، ص147 – 148].
ثانياً كن صالحًا في نفسك مصلحًا لغيرك: وفي وصية لقمان أمره لوالده أن يكون صالحًا في نفسه وذلك بعبادة الله وعلى رأسها الصلاة، ومصلحا لغيره بما يأمر به من المعروف وينهى عن المنكر، وأن يكون صابرًا لما يناله من أذى من الآخرين وهو يدعوهم إلى الله ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.
وهذا ما يستفاد من قول لقمان في موعظته لابنه كما قص الله علينا بقوله تعالى: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ (لقمان: 17).
ثالثًا الابتعاد عن التكبر ومظاهره: وفي وصية لقمان لابنه دعوة إلى مكارم الأخلاق عن طريق التخلي عن أضدادها ؛ لأن التخلي عن المساوئ مقدم على التحلي بالمكارم؛ ولأن التخلي عن المساوئ نوع من أنواع التحلي بالمكارم.
ومن أسوأ مساوئ الأخلاق جهل الإنسان قدر نفسه مما يسلمه إلى رذائل هائلة قد يكون شرها (التكبر)، وهذا ما دل عليه قوله تعالى حكاية عن لقمان في وصيته لابنه وهو قوله تعالى: وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (لقمان: 18)، وجاء في تفسيرها: لما أمر لقمان ابنه في وصيته أن يكون كاملاً في نفسه مكملاً لغيره، أي صالحًا في نفسه مصلحًا لغيره.
وقد كان للصحابة الكرام جهاد كبير وتضحية جسيمة في سبيل الله وكان لكل منهم شخصيته الإسلامية مما هو معروف في التاريخ، وقد أثنى الله عليهم في كتابه العزيز. وقد أثروا بشخصيتهم الإسلامية في أولاده وربوهم على معانيها واقتدى أولئك الأولاد النجباء بأولئك الآباء الأخيار.
ومن قصصهم ما ذكره المقريزي في أخبار معركة الخندق، حيث اشترك الفتيان في حفر الخندق، واشترك بعضهم في قتال هذه المعركة، فقد قال المقريزي رحمه الله تعالى: “وعرض رسول الله ﷺ الغلمان وهو يحفر الخندق فأجاز من أجاز ورد من رد، فكان ممن أجاز عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت والبراء بن عازب، وما منهم إلا ابن خمس عشرة سنة، وكان الغلمان الذين لم يبلغوا يعملون معه، ثم أمرهم فرجعوا إلى أهليهم.
فأولاد الصحابة الكرام كانوا على نهج آبائهم الصحابة الكرام تربوا على معاني الإسلام وكانت لهم شخصيتهم الإسلامية الواضحة بالرغم من صغرهم حتى إن من لم يصل منهم من البلوغ ساهم في حفر الخندق وكانوا يطمعون أن يشتركوا في القتال، ولكن الرسول ﷺ لم يبق منهم إلا من كان له خمس عشرة سنة، وأمر الباقين بالرجوع إلى أهليهم.
وفي أولئك الأولاد الطيبين قدوة حسنة لمن أتى ويأتي بعدهم.