وسط كل هذه الأحداث المتتالية التي تمر علينا، نسمع مصطلح “الوعي” يتردد بكثرة في الكتابات والسجالات، ونرى أصواًتا غير قليلة تدعو للتحلي بالوعي، ولاسترداد الوعي، وللمحافظة على الوعي.
فما هو “الوعي؟ وما ضرورته؟ وهل له صلة بمحاولات الانعتاق الحضاري من أسر التخلف والاستبداد والتبعية؟
مفهوم الوعي
جاء في “مقاييس اللغة”: “الواو والعين والياء: كلمةٌ تدل على ضَمِّ شَيْءٍ. وَوَعَيْتُ الْعِلْمَ أَعِيهِ وَعْيًا. وَأَوْعَيْتُ الْمَتَاعَ فِي الْوِعَاءِ أُوَعِّيهِ” (6/ 124).
وفي “لسان العرب”: “الْوَعْيُ: حِفْظُ الْقَلْبِ الشَّيْءَ. وَعَى الشَّيْءَ وَالْحَدِيثَ يَعِيهِ وَعْيًا وَأَوْعَاهُ: حَفِظَهُ وَفَهِمَهُ وَقَبِلَهُ، فَهُوَ وَاعٍ، وَفُلَانٌ أَوْعَى مِنْ فُلَانٍ أَيْ أَحْفَظُ وَأَفْهَمُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: (نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا؛ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ).
الْأَزْهَرِيُّ: الْوَعِيُّ الْحَافِظُ الْكَيِّسُ الْفَقِيهُ” (15/ 396).
إذن الوعي في اللغة يدل على فهم الشيء وحفظه وفقهه والإحاطة به.
أما مفهوم “الوعي” (Cognition) فلهذا المصطلح دلالات عديدة، ولكن أهم معانيه تتجلى من خلال علمين أساسيين في الإنسانيات الحديثة (علم النفس وعلم الاجتماع) .
في علم النفس: يشير مصطلح الوعي أولاً إلى حالة “اليقظة” العادية، ويشير ثانيًا إلى قدرة الإنسان المتميزة الخاصة على الشعور بذاته، وتمايز ذاته عن الآخرين وعن الأشياء والكائنات الأخرى.
أما علم الاجتماع: فقد شرع في التركيز على أن الوعي نتاج لتطور فسيولوجي لمخ الإنسان، ولقدرة الإنسان على العمل وابتكار اللغة، وأن الوعي بهذا الشكل يصبح النتاج المباشر لتفاعل المعرفة المكتسبة فرديًّا أو اجتماعيًّا مع الدماغ (المخ)؛ وبالتالي، يصبح اللاوعي جزءًا من الوعي، ويتبادلان في الوقت نفسه التأثير والتأثر” (مصطلحات فكرية، سامي خشبة، ص: 253- 255. باختصار وتصرف).
إذن، الوعي- من ناحية عامة- معرفة يكتسبها الفرد من مجتمعه، ومن تفاعله معه؛ وتترسخ هذه المعرفة بحيث تصبح مركوزة في اللاوعي، أي في العقل والشعور الباطن لدى الإنسان؛ ثم هي معرفة قابلة للنمو والتطور.
وإذا أضاف المسلم لهذه المعرفة من المجتمع والحياة، معرفته الأساسية التي يستمدها من الوحي- قرآنًا وسنة- فإنه يتكوّن لديه وعي متميز ومتمايز؛ إذ عنده ما يفتقده الآخرون الذين يقصرون وعيهم على الماديات وما تدركه الحواس.
ولا يشك عاقل في أن التحلي بالوعي بات ضرورة ملحّة؛ فالكوارث التي نحياها، والهزائم التي نكتوي بنارها- سواء على مستوى الداخل من الاستبداد، أو الخارج من التبعية- إنما هي بسبب غياب الوعي المناسب للتحديات المفروضة، وللآمال المعلقة.
ولذا، فقد شكا الشيخ محمد الغزالي من غياب الوعي عند الأمة، فقال رحمه الله: “الضمير المعتل والفكر المختل ليسا من الإسلام في شيء. وقد انتمت إلى الإسلام اليوم أمم فاقدة الوعي، عوجاء الخطى، قد يحسبها البعض أممًا حية ولكنها مغمى عليها. والحياة الإسلامية تقوم على فكر ناضر؛ إذ الغباء في ديننا معصية” (انظر مقدمة كتابه: كنوز من السنة، ص: 7).
مجالات الوعي
أما عن الوعي المطلوب ومجالاته، فيمكن أن نقول إن الوعي المطلوب نوعان: وعي بالذات، ووعي بالآخر.
والوعي بالذات يشمل الوعي بها في اختلاف الزمان: ماضيًا، وحاضرًا، ومستقبلاً.
والوعي بها في اختلاف المكان: وطنًا وإقليمًا وأمة.
فالوعي بالذات ماضيًا: أي معرفة من نحن، وكيف نشأنا، وما مسيرتنا، وهل لنا تاريخ نتصل به ونستفيد منه، أم إننا نبدأ من نقطة الصفر، كما يزعم البعض. وكيف يكون ماضينا زادًا ينير الدرب ويقوّم الخطوات.
والوعي بالذات حاضرًا: أي معرفة واقعنا الذي نحياه، في مختلف المجالات، بدقة؛ فندركه كما هو، دون تجميل أو تقبيح، ودون تهويل أو تحقير.
إضافة للوعي بما يفرضه علينا واقعنا من قضايا واهتمامات وأولويات؛ حتى نحسن التعاطي معه، ولا ننفصل عنه.
والوعي بالذات مستقبلاً: أي بالآمال المرتجاة، وبالفرص المتوقَّعة، وبكيفية التعامل معها من خلال الإمكانات المتوافرة؛ حتى نجمع بين المثالية والواقعية في وسطية واتزان، ولا نجنح يمنة أو يسرة.
وأما الوعي بالذات في اختلاف المكان، فهو ضروري لأن أمة الإسلام أمة واحدة، ولا يليق بآحادها التقوقع داخل المحيط الأصغر.
وهذه الدوائر الثلاثة- الوطن، والأمة العربية، والإسلامية- تتكامل ولا تتعارض. وتلك الحقيقة يدركها الغرب جيدًا، ويتعامل معنا على أساسها، رغم أن البعض منا لا ينظر أبعد من دائرته الضيقة، ويحسب أنه يستطيع النجاة بمفرده!
فمن المفارقات حقًّا أن الغرب يتعامل مع الأمة الإسلامية باعتبارها “رقعة شطرنج”، تقف عناصرها المتعددة على أرضية واحدة؛ بينما عناصر هذه الأمة تتعامل مع نفسها كقطع منفردة، لا صلة تربطها، ولا قانون يجمعها! ليتنا ننظر لأنفسنا كما ينظر الآخرون لنا!
بجانب هذا الوعي بالذات، هناك الوعي بالآخر، ولا تستقيم معرفة الذات حتى نعرف الآخر، ولهذا قيل: بضدها تتميز الأشياء.
فيجب أن نعرف كيف يفكر الآخر، وما نقاط قوته وضعفه، وما عوامل التلاقي والحوار التي تجمعنا، وأسباب الاختلاف والنزاع التي تفرقنا. وهل “الآخر” كتلة مصمتة لا مفر من الصدام معه، أم هناك “آخر” يمكن الحوار والتفاهم معه على أرضيه مشتركة، و”آخر” غير ممكن معه ذلك.
لقد رفع العرب بعد هزيمة 67 شعار “اعرف عدوك”؛ ورغم مُضِيِّ سنوات على الهزيمة النكراء التي تركت آثارًا عميقة في تاريخنا المعاصر، ورغم ما تلاها من محاولات للتعرف على الأعداء، من خلال إقامة مراكز أبحاث ودراسات علمية؛ فإن الواقع يشهد على أن معرفتنا بالآخر ليست بالمستوى المطلوب.. هذا مجرد مثال!
جماعية الوعي
وفيما يتصل بقضية الوعي عمومًا، نلفت النظر إلى أمرين أساسيين:
الأمر الأول: أن الوعي يزيد وينقص، وليس أمرًا ثابتًا.. فقد يتوافر الوعي عند الإنسان في وقت ما، ثم ينحسر. وقد يتوافر الوعي بقضية ما دون قضية أخرى. وقد يوجد الوعي بدرجة لكنها درجة غير كافية.
فالوعي يزيد بالقراءة، والتجربة، واليقظة، والتأمل، وينقص بأضداد هذه الأمور؛ أي الجهل، وعدم الخبرة، والغفلة، وإهمال العقل.
أما الأمر الثاني فهو أننا بحاجة ماسة إلى “الوعي الجماعي”؛ فواقعنا بلغ من التعقيد بحيث لا يستطيع فرد- مهما كان- أن يلم بخرائطه وتشابكاته.
ولذا، أنشئت المجامع الفقهية، واللغوية، ومراكز الأبحاث، وما يطلق عليه (Think Tanks) أي مراكز التفكير.
تجريف الوعي
ولا يخفى على المراقب أن أمتنا قد تعرضت، خاصة في العقود الأخيرة، لإصابات أدت إلى تجريف الوعي عند أعداد وشرائح لا يستهان بها؛ بحيث أصبحت رؤيتها مشوَّشة، وطريقة إدراكها لذاتها، وقيمها، والعالم من حولها؛ طريقة غير سوية.
الأمر الذي يستدعي مضاعفة الجهد ممن يشتغلون بالوعي، ويهتمون بتصحيح مساره.
إن قضية الوعي ينبغي أن نوليها أهمية تتناسب مع قدرها؛ إذ هي قضيةُ حياةٍ أو موت، وجودٍ أو فناء، فاعليةٍ أو خمول!