أقيم مؤخرًا في استاد العاصمة الإدارية شرق القاهرة حفلًا كبيرًا نظمه "اتحاد القبائل العربية" بمناسبة الذكرى الحادية والخمسين لانتصارات أكتوبر 1973، غير أن الاحتفال حمل في طياته أهدافًا أخرى تتجاوز مجرد الاحتفاء بالذكرى.
الحفل كان محاولة لتقديم مشهد ضخم يعكس الدعم الشعبي لزعيم الانقلاب عبد الفتاح السيسي، في وقت يشهد فيه النظام تراجعًا حادا في قاعدة مؤيديه.

على مدى السنوات الأخيرة، تآكلت الحاضنة الشعبية للسيسي، وأصبحت مقتصرة إلى حد كبير على فئات معينة، منها قطاع محدود من المسيحيين، وبعض عائلات العسكريين في الجيش والشرطة.
أما باقي الطبقات الشعبية، فقد انفصلت عنه لأسباب عدة، أهمها خيبة الأمل في سياساته، سواء من جهة التنازلات السياسية مثل التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، والتهاون في حقوق مصر المائية، أو على الصعيد الاقتصادي، حيث تشهد البلاد ارتفاعًا جنونيًا في الأسعار وتدهورًا مستمرًا في قيمة العملة الوطنية.
تلك الظروف دفعت الكثير من الشباب للسعي وراء الهجرة غير الشرعية بحثًا عن الحد الأدنى من الحياة الكريمة.

منذ انقلاب الثالث من يوليو 2013، انقسم الشعب المصري إلى داعمين للنظام ومعارضين له.
وكان السيسي حريصًا على مخاطبة أنصاره وكأنهم هم وحدهم "المصريون"، في حين وُصف معارضوه بأهل الشر، مما أسهم في خلق حالة من الانقسام العميق.
وشملت حاضنة النظام الأساسية ثلاثة فئات رئيسية:
- فئة من الطبقات الشعبية التي انخدعت بوعوده وأكاذيبه المدعومة بآلية إعلامية قوية.
- فئة من النخب السياسية والثقافية التي عارضت الإخوان ووافقت على تدخل السيسي.
فئة من الأقباط الذين خافوا على عقيدتهم في ظل حكم الإخوان.

ولكن تلك الفئات شهدت تراجعًا واضحًا في دعمها للنظام، فالفئة الشعبية بدأت تتململ حين تبخرت وعود السيسي بالرخاء، وأصبحت تعاني من الغلاء والتضخم، الذي أثر بشدة على الرواتب والمدخرات.
كما أن الفئة السياسية والنخب التي دعمت الانقلاب لم تعد تشعر بالرضا مع استمرار السيسي في إغلاق المجال العام والزجّ بالمعارضين في السجون، إضافة إلى تنازله عن الأراضي المصرية مثل جزيرتي تيران وصنافير وفشله في أزمة سد النهضة.
أما الفئة الطائفية، فقد شهدت بعض التحول في ظل عدم قدرة النظام على مواجهة الأزمات الطائفية، رغم استمرار بعض أصوات المعارضة.

مع هذا التآكل في الحاضنة الشعبية، سعى النظام العسكري إلى إنشاء قاعدة شعبية جديدة عبر تشكيل كيانات موازية، مثل "اتحاد القبائل العربية"، الذي جرى توسيع دوره ليصبح "اتحاد القبائل العربية والعائلات المصرية"، بهدف تقديم صورة وكأنه يمثل عموم الشعب.
تلك المبادرة جاءت كبديل للأحزاب التي أسستها الدولة مثل "مستقبل وطن" و"حماة وطن"، والتي بُنيت في الأساس لتشكيل حاضنة سياسية، لكنها لم تستطع تحقيق شعبية حقيقية وظلت مجرد أحزاب شكلية تعتمد في وجودها على علاقتها بالسلطة.

ورغم كل محاولات الدعم لهذه الأحزاب، فشلت في جذب الشارع، ما دفع النظام العسكري إلى محاولة تأسيس مظلة أخرى، وهي اتحاد القبائل، الذي كان أول اختبار عملي له هو حشد الناس لحضور حفل ذكرى أكتوبر في استاد العاصمة الإدارية.
وبالفعل، عملت السلطات على حشد المواطنين من مختلف محافظات مصر عبر توفير وسائل النقل والمغريات المالية، لضمان مشاركة واسعة وتقديم صورة إعلامية توحي بأن الشعب ما زال داعمًا للنظام.

بيد أن هذا الحشد لم يكن حقيقيًا، بل مصطنعًا إلى حد كبير، حيث أُنفق على تجهيزه ملايين الجنيهات، بين مكافآت مالية، وتأجير حافلات، وتوفير الطعام، وأجهزة الدعم الفني.
وهو حشد استثنائي في ضوء منع السلطات لأي تجمعات أو تظاهرات أخرى، في حين لا يزال المئات بل الآلاف في السجون بتهم المشاركة في تظاهرات سابقة.

وقد كانت الرسالة الواضحة من هذا الحشد مزدوجة؛ رسالة لخصوم السيسي في الداخل والخارج لتأكيد أن النظام العسكري يتمتع بقاعدة شعبية، ورسالة اختبارية لاتحاد القبائل لقياس قدرته على تعبئة الجماهير كبديل لأحزاب السلطة، التي فشلت في المهمة من قبل.

يبقى التساؤل الأهم هنا حول حقيقة الشعبية التي يتمتع بها السيسي، والذي يمكن اختبارها بفتح استاد العاصمة ذاته أمام القوى السياسية المختلفة للاحتفال بذكرى ثورة يناير، التي يفصلنا عنها أقل من ثلاثة أشهر.
ورغم أن هذه الثورة تعد مصدر إلهام للكثير من المصريين وقيمها محفورة في الدستور، إلا أن السيسي حرص في مناسبات عديدة على تشويهها، واعتبارها نكسة لا تقل عن نكسة يونيو 1967، بل وصل به الأمر في هذا الحفل الأخير إلى الإشارة إلى أن مصر تمر بأجواء مشابهة لما بعد النكسة، في محاولة لتبرير سياساته الاقتصادية الفاشلة.
لذا، فإن فتح استاد العاصمة أو حتى استاد القاهرة أمام الشعب للاحتفال بذكرى يناير قد يكون الاختبار الحقيقي لشعبية نظام السيسي؛ فعلى الرغم من محاولاته المستمرة لتحجيم هذه الثورة، تظل رموزها وأهدافها من حرية وكرامة وعدالة ملهمة للعديد من المصريين، وتعيد لهم الأمل في إمكانية التغيير وتحقيق الحرية.
فهل يقبل السيسي هذا التحدي ويفتح الاستاد للاحتفال بذكرى يناير؟