يعتقد العديد من الفاعلين في المجال العام، سواء كانوا سياسيين، صحفيين، أو مدافعين عن حقوق الإنسان، أن الإفراج عنهم من السجن سيعني انتهاء معاناتهم واستعادة حرياتهم. إلا أنهم يفاجؤون عند خروجهم بأن القيود المفروضة عليهم لا تزال قائمة، حيث يتم تقييد حقوقهم لأسباب أمنية.

مع تصاعد القيود على الحريات في مصر، لا تنتهي معاناة هؤلاء الفاعلين  بمجرد خروجهم من السجن. فبالإضافة إلى القيود الأمنية، يواجهون صعوبات في الاندماج الاجتماعي والسياسي، وتستمر انتهاكات حقوقهم عبر جوانب متعددة تشمل القيود المهنية والمالية، مما يعوق حياتهم اليومية ويضعهم في حالة من العزلة المستمرة.

في حديثه عن رحلته الشاقة للحصول على مستندات رسمية من نيابة أمن الدولة العليا، يصف رضا خالد، 27 عامًا، تفاصيل معاناته بعد أن طلبت منه إدارة التجنيد والتعبئة التابعة للقوات المسلحة أوراقًا خاصة بقضيته التي احتُجز على ذمتها.

يروي خالد: “ألقي القبض عليّ من منزلي في أكتوبر 2019. بعد اختفائي لمدة 48 ساعة، تم التحقيق معي في نيابة أمن الدولة العليا، حيث وُجهت إليّ تهم تتعلق بالانضمام إلى جماعة إرهابية ونشر أخبار غير دقيقة. بعد نحو عامين، وتحديدًا في يوليو 2021، تم إطلاق سراحي مع فرض تدابير احترازية، بدأت بثلاثة أيام في الأسبوع، ثم أصبحت يومية، قبل أن تُرفع تمامًا بعد عدة أشهر.”

يضيف خالد، وهو يعمل مدرسًا، خلال حديثه إلى زاوية ثالثة: “خلال العامين الماضيين، سعيت جاهدًا لاستعادة حياتي الطبيعية. وحينما تقدمت مؤخرًا إلى إدارة التجنيد لاستكمال إجراءات الخدمة العسكرية، تم طلب مجموعة من الوثائق الرسمية، من بينها نسخة من ملف قضيتي. ورغم توجهاتي إلى نيابة أمن الدولة لطلب تصوير الملف، قوبل طلبي بالرفض، مع أنهم على علم بأن الأوراق مطلوبة للتجنيد. طُلب مني إحضار خطاب رسمي من الجهة العسكرية، لكن الأخيرة رفضت بدورها إصدار هذا الخطاب، مما تركني عالقًا بين جهتين حكوميتين.”

يشير خالد إلى أن عدم تقديم أوراق قضيته لإدارة التجنيد قد يجعله عرضة للتحقيق العسكري بتهمة إخفاء معلومات، وما قد يترتب على ذلك من عقوبات قانونية محتملة، مما قد يعيد وضعه تحت ضغوط قانونية بعد سنوات من السعي نحو الاستقرار.

تعد تجربة خالد جزءًا من ظاهرة أوسع يعاني منها العديد من العاملين والناشطين الذين يواجهون صعوبات كبيرة في استخراج المستندات الرسمية بعد الإفراج عنهم. في يناير من العام الماضي، نشرت مؤسسة حرية الفكر والتعبير، وهي مؤسسة حقوقية غير حكومية، تقريرًا بعنوان “سجن بلا نهاية”، وثقت فيه الانتهاكات التي يتعرض لها الأكاديميون المخلى سبيلهم في قضايا سياسية.

كانت من بين تلك الانتهاكات صعوبة الحصول على الأوراق والمستندات الرسمية من قبل المؤسسات الحكومية المختلفة. فعلى سبيل المثال مُنع الأكاديمي والحقوقي، باتريك جورج، من استخراج جواز سفر من مصلحة الجوازات في مايو 2022. وهو أكاديمي مصري حكم عليه بالسجن ثلاث سنوات في يوليو 2023 من محكمة جنح أمن الدولة طوارئ قسم ثان المنصورة، في القضية رقم 1086 لسنة 2021، بتهمة “إذاعة أخبار كاذبة عن اﻷحوال الداخلية للبلاد من شأنها تكدير الأمن والسلم الاجتماعي”، وذلك على خلفية نشره مقالًا عن حقوق الأقباط عام 2019، وذلك قبل أن يتم العفو عنه بعد أيام من إصدار الحكم. وقضى 22 شهرًا رهن الحبس الاحتياطي على ذمة نفس القضية قبل إخلاء سبيله على ذمة المحاكمة.

من جهتها، تؤكد المحامية الحقوقية هالة دومة في حديثها معنا، عدم وجود أي سند قانوني يمنع المواطنين من الحصول على مستندات أو أوراق رسمية بعد خروجهم من السجن. وأوضحت أن هذه المعوقات لم تُذكر في أي نصوص قانونية أو تعليمات واضحة ومكتوبة، مما يترتب عليه استمرارها دون قدرة المواطنين أو محاميهم على التظلم عليها أو مواجهتها بالقانون.

 حق التنقل المقيد
لم تكن أزمة الحصول على الأوراق والمستندات الرسمية الوحيدة المعيقة لحياة المخلى سبيلهم من المحبوسين في قضايا سياسية، إذ يمتد الأمر إلى تقييد حق التنقل، وهو الحق الذي نص عليه الدستور المصري.

يروي المصور الصحفي حيدر قنديل معاناته في التنقل. يقول: “ألقي القبض عليه من منزله في مدينة طنطا بمحافظة الغربية في ديسمبر 2019، قبل أن يتم إخلاء سبيلي في أغسطس 2020 بكفالة خمسة آلاف جنيه ووضعي قيد التدابير الاحترازية الأسبوعية. استوقفت مرات عديدة أثناء سيري في الشوارع من أفراد الأمن حتى يتم الكشف عن بطاقتي بالاتصال بالأمن الوطني، وبعد مدة قد تمتد إلى ساعات من توقيفي يُسمح لي بالانصراف. هذا الأمر جعلني حريصًا على عدم السير ليلًا”. مشيرًا إلى أنه دائمًا ما يشعر بالتهديد وإمكانية عودته إلى السجن في أي وقت.
معاناة التوقيف والكشف الأمني وتقييد التنقل والحركة يعاني منها الكثير ممن خاضوا تجربة الحبس الاحتياطي أو الحبس على ذمة قضية سياسية. ففي يونيو الماضي، نشرت مؤسسة “ثيميس للمحاماة وأعمال القانون” تقريرًا تحت عنوان “كارت المعلومات الجنائية – السيف المسلط على حق المواطنين في حرية الحركة والسفر والتنقل”.

تناول التقرير ظاهرة استيقاف المواطنين بدون وجه حق خلال عبورهم الكمائن الحدودية بين المحافظات، بالرغم من حصولهم على أحكام بالبراءة أو استبعادهم من الاتهام أو حفظ المحاضر المحررة ضدهم أو عدم صدور أمر بإحالتهم للمحاكمة، أو تشابه أسمائهم مع آخرين محكوم عليهم. موضحًا الضرر المادي والمعنوي البالغ الذي تعرضوا له بسبب استمرار تسجيل بياناتهم في كارت المعلومات الجنائية بدون مسوغ قانوني.

ونشر التقرير شهادة لأحد المواطنين ممن تعرضوا للتضييق أثناء سفره محافظة في جنوب سيناء بعد إخلاء سبيلهم. إذ أصر فرد الأمن التابع لوزارة الداخلية على عدم عبوره الكمين؛ إلا بشرط ترك بطاقة الرقم القومي في المكتب الإداري التابع للكمين، واستردادها أثناء عودته.

في التقرير نفسه، رصد مكتب “ثيميس” العديد من الشهادات لمواطنين تم اتهامهم سابقًا في القضايا المتعلقة بحرية الرأي والتعبير أو القضايا المنظورة أمام القضاء الجنائي. تلخصت أغلب الشهادات في ثلاث حالات: الأولى، يُمنع الأشخاص من المرور أساسًا حيث يتم توقيفهم وبعد عملية البحث يُطلب منهم العودة إلى القاهرة وعدم السماح بالمرور. الحالة الثانية، نجاح البعض في المرور بعد جولة من التفاوض مع أفراد الشرطة المسؤولين عن الكمين، بحيث يثبتون عدم خطورتهم الأمنية بتقديم شهادات صادرة من النيابة العامة يحملون نسخة ورقية منها أو على هواتفهم الخاصة. وإذا حالفهم الحظ، يكون قرار المسؤولين ترك بطاقة الرقم القومي على أن يستردوها فور عودتهم. أما الحالة الثالثة، يضع البعض رهن الانتظار لمدة قد تصل لساعات حتى يتم مراجعة أمرهم وإما أن يسمح لهم بالمرور أو يُطلب منهم العودة.

التعنت يعطل الحياة
لم يستطع عبد الرحمن طارق، الشهير بــ”موكا”، العودة إلى الجامعة بعد إخلاء سبيله، فقد رفضت الجامعة اعتماد المستندات الرسمية التي قدمها عبد الرحمن، وحصل عليها بعد شقاء تفيد بأسباب تغيبه وانقطاعه عن الدراسة.

يروي عبدالرحمن الذي اضطر إلى المنفى الاختياري والسفر إلى فرنسا، بعد أن فشل في العودة إلى دراسته وحياته الطبيعية، معاناته. يقول: “تم فصلي من الجامعة بسبب انقطاعي عن الدراسة أثناء حبسي، قدمت التماسًا لكن رُفض. وفور عودتي من السجن، حاولت العودة إلى الجامعة، ورغم حصولي على جميع الأوراق المطلوبة، رفضت الجامعة عودتي مرة أخرى.” مشيرًا إلى أنه اضطر للخروج من البلاد بسبب الضغوط الأمنية التي مورست لإجباري على المشاركة في الحوار الوطني، وهو ما رفضته واخترت الخروج من البلاد.

رصد تقرير لمؤسسة حرية الفكر والتعبير نُشر في فبراير 2023 بعنوان “لا يزالون سجناء.. هل تنتهي معاناة الصحفيين بالإفراج عنهم؟” معاناة الصحفيين المفرج عنهم. إذ رصدت أن عددًا من الصحفيين يواجهون صعوبة في العودة إلى أعمالهم ومواصلة حياتهم بشكل طبيعي عقب خروجهم من السجن.

“في الشارع نعاني أمنيًا، نتعرض للخطر والاحتجاز في أي وقت بمجرد مصادفة رجل شرطة. يصبح مصيرك بين يديه وتنتظر ليقرر هل سيتركك أم يرحّلك إلى أحد مقرات الأمن الوطني”. هذه كلمات من تصريحات قالها الناشط السياسي شريف الروبي في مداخلة لقناة الجزيرة يوم 4 سبتمبر 2022، يوضح فيها التعنت والتضييق الذي واجهه في جميع مجالات الحياة بعد إخلاء سبيله في مايو 2022، بعد حبس دام عامًا ونصف، قبل أن يتم القبض عليه مجددًا للمرة الرابعة بعد أشهر قليلة على خلفية تلك التصريحات، إذ أُلقي القبض على الناشط السياسي شريف الروبي في 16 سبتمبر 2022 فجرًا من أمام أحد الفنادق في ميدان أحمد حلمي بوسط القاهرة، وبعد إخفائه لمدة يوم، ظهر الروبي في نيابة أمن الدولة وتم التحقيق معه على ذمة القضية رقم 1634 لسنة 2022 بتهمة نشر أخبار كاذبة والانضمام لجماعة إرهابية.

ولخص الروبي معاناته وغيره من المفرج عنهم في القضايا السياسية في المداخلة التلفزيونية قائلاً: “أنا ممنوع من السفر، وترفض السلطات استخراج جواز سفر لي. حاولت التواصل مع جهات عدة للسماح لي بالسفر حيث إني لا أستطيع الحصول على عمل. جميع المعارضين غير قادرين على الحياة في مصر، الوضع الأمني في مصر خطر جدًا، وحتى أصدقائنا في الخارج يعانون.”
مبادرات بلا أثر
جاء الإعلان عن حملة إعادة دمج المفرج عنهم مجتمعيًا، من قبل  لجنة العفو الرئاسي وروّجت لها تنسيقية شباب الأحزاب، بعد أيام من القبض على الناشط السياسي شريف الروبي، ما أثار حفيظة عدد من المنظمات الحقوقية. في المقابل، نشرت الجبهة المصرية لحقوق الإنسان (منظمة أوروبية مستقلة) تقريرًا نُشر في يونيو 2023 بعنوان “بدلًا من تعويض المحتجزين تعسفيًا، حملة علاقات عامة جديدة للسلطات المصرية تحت عنوان “إدماج المفرج عنهم”، تضمن نفى غالبية من تحدثت معهم الجبهة تلقيهم أي مساعدات من لجنة العفو في إطار العودة إلى عملهم أو وظائفهم أو حتى تلقي الدعم النفسي لإعادة دمجهم اجتماعيًا.

في السياق نفسه، لم تستطع زاوية ثالثة الحصول على أرقام أو إحصائيات رسمية بعدد الذين تم إعادة دمجهم في المجتمع بعد تجربة الحبس بعد مرور عامين من المبادرة، كما اختفت أي أخبار عن المبادرة خلال العام الجاري.

من جهتها، تقول إلهام عيداروس – وكيل مؤسسي حزب العيش والحرية-، في حديثها معنا: “هناك الكثير من المعوقات التي تم رصدها من أعضاء الحزب المفرج عنهم في السنوات الأخيرة، من بينها التدابير الاحترازية والمتابعة غير الرسمية في مقار الأمن الوطني، الأمر الذي يعرقل التزامهم في العمل، إلى جانب صعوبة الحصول على ورق القضية والأوراق الرسمية عمومًا مثل الفيش والتشبيه، بخلاف الاستدعاءات الأمنية المتكررة.”، مضيفة أن ما حدث لمبادرة إعادة الدمج هو نفسه ما حدث للجنة العفو، متسائلة عن اللجنة ونشاطها ودورها الذي اختفى مجددًا دون سبب.

وترى وكيل مؤسسي حزب العيش والحرية أنه لا توجد إرادة سياسية حقيقية سواء في التوقف عن الاستباحة الأمنية أو حل أزمة السياسيين والمعارضين المفرج عنهم. وتعتبر أن هذه المعوقات بمثابة عقاب للمعارضين عن مواقفهم السياسية. “فإذا كانت هناك إرادة سياسية حقيقية، لكان على الأقل رأينا النيابة تقوم بدورها في تطبيق القانون وإخلاء سبيل المحتجزين، ولرأينا اللجنة تقوم بنشاط ملحوظ”. ودللت على عدم وجود إرادة سياسية حقيقية بطرح الحكومة لمشروع قانون الإجراءات الجنائية الذي يتضمن الكثير من العوار ولم يعالج قضايا أخرى مثل التدوير وآلية الإخفاء القسري.

يرى المحامي الحقوقي ممدوح جمال أن الأزمة ليست في التعنت وإنما في البيروقراطية وعدم الإهتمام بتحديث بيانات المتهمين على نظام وزارة الداخلية. وأشار إلى أنه لا يوجد نص يبيح ذلك، لكن في الواقع نرصد الكثير من المعوقات ليس للسياسيين فقط، وإنما أيضًا للمتهمين في قضايا جنح وجنايات، على سبيل المثال مكتب العمل الذي يرفض استخراج تصاريح لمن له سابقة حبس أو قضية لم تُغلق ملفها حتى لو بعد سنوات.

يوضح في حديثه إلى زاوية ثالثة أن قضايا أمن الدولة، غالبًا ما تظل مفتوحة، وهو ما يترتب عليه الحرمان من تصاريح العمل والتوقيف الأمني في أي وقت وفي أي مكان، والتوقف في الأكمنة الحدودية بين المحافظات، ويظل المتهم في القضية قيد الاشتباه، مما يعيق حياته. مؤكدًا على أن تلك المعوقات تتعارض مع الدستور الذي نص على حرية التنقل والسفر وحق الحصول على العمل والحرية الشخصية.

وتنص المادة 59 من الدستور المصري على أن: “الحياة الآمنة حق لكل إنسان، وتلتزم الدولة بتوفير الأمن والطمأنينة لمواطنيها، ولكل مقيم على أراضيها”. كما تنص المادة 62 على أن: “حرية التنقل، والإقامة، والهجرة مكفولة. ولا يجوز إبعاد أي مواطن عن إقليم الدولة، ولا منعه من العودة إليه. ولا يكون منعه من مغادرة إقليم الدولة، أو فرض الإقامة الجبرية عليه، أو حظر الإقامة في جهة معينة عليه، إلا بأمر قضائي مسبب ولمدة محددة، وفي الأحوال المبينة في القانون”.  فيما تنص المادة 99 على أن: “كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين، وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور والقانون، جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية، وتكفل الدولة تعويضًا عادلاً لمن وقع عليه الاعتداء، ولـ المجلس القومي لحقوق الإنسان إبلاغ النيابة العامة عن أي انتهاك لهذه الحقوق.”

إن معاناة المعارضين والعاملين في المجال العام التي يعيشونها عقب خروجهم من السجن تعكس وضع الحياة السياسية والمجال العام في البلاد، فرغم مزاعم الانفراجة السياسية التي تداولت عقب قرار إعادة إحياء لجنة العفو الرئاسي و عقد الحوار الوطني، لا زال المعارضون والعاملون في المجال العام يعانون من القيود المفروضة على حرياتهم الأساسية، بما في ذلك التهديد المستمر بالملاحقة الأمنية والحرمان من حقوقهم المدنية والاقتصادية التي نص عليها الدستور المصري والاتفاقيات الدولية، ما يثير الشك حول جدية مزاعم الانفراجة أو الإصلاحات السياسية.