يعيش المسلمون اليوم في عصر مليء بالفتن والأفكار الضّالة، وهو ما يتطلب جهادًا كبيرًا من أجل الثبات على الإيمان والإسلام، ومواجهة كل مَن يُريد هدم ثوابت الدّين أو إنكار السُّنّة، وهي مهمة صعبة لكنها تستحق التعب والجهد، لأنّ جائزتها النجاة من الفتن والفوز بالجنة يوم القيامة.

ولا شكّ أن عواصفُ الشهوات والشُّبُهات في تنامٍ، وهي جاذبة لأصحاب القلوب الضعيفة والعقول الفارغة جذْبًا قويًّا، بل وتُيسِّر عمل الحاقدين على هذا الدّين في تشويهه واستمالة الناس إليهم، وصرفهم عن تعلُّمه والإقبال عليه؛ لأنّ من تعلَّم دينَه حقَّ التعلُّم فلن يضيره ما يَحِيكه أصحابُ تلك الفتن في هذا الباب، حتى ولو بقي وحدَه.

كيفية الثبات على الإيمان في ظل الفتن؟!

ومن رحمة الله- سبحانه وتعالى- بنا أن بيّن لنا في كتابه وعلى لسان نبيه وفي سيرته- صلى الله عليه وسلم- وسائل تربوية كثيرة تهدف إلى الثبات على الإيمان والإسلام، نستعرض بعضا منها على النحو التالي:

الاشتغال بالقرآن الكريم: ويكون ذلك تلاوة وحفظًا وتدبرًا، فهو شفاء للقلوب من أمراضها، وتدبره بعد قراءة تفسيره يُعين المؤمن على معرفة طُرق مواجهة الفتن المتكاثرة، وقد ذكر الله تعالى أنّ القرآن من وسائل الثبات في الأمر، فقال سبحانه: (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) [الفرقان:32].

التقرب إلى الله تعالى بالعبادات: فالمؤمن صاحب العبادة المحافظ على الفرائض المؤدي للنوافل يثبته الله، ويؤيده بروح منه، ويمدّه بمددٍ من عنده، قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) [النساء: 66]. وقال- سبحانه وتعالى- في الحديث القدسي: “مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ” (البخاري).

الإكثار من الدعاء: فقد لا يملك المؤمن من الأسباب في مواجهة الفتن أكثر من سلاح الدعاء، كقوله تعالى على لسان بعض أوليائه: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) [البقرة: 250]، و(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) [آل عمران: 8]. وعَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- أنه قَالَ: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ” (الترمذي).

مطالعة قصص الأنبياء والصالحين: فقراءة أخبارهم، ومعرفة مواقفهم، والوقوف على أحوالهم، وتأمل أقوالهم وقت الفتن التي تعرضوا لها من أعظم الأسباب المعينة على مواجهة الفتن والثبات أمامها، قال الله تعالى: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) [هود:120].

التوكل على الله تعالى: وتفويض الأمر إليه سبحانه، فهو من أعظم المنازل والمقامات عند الله تعالى، بل هو علامة الإيمان، قال تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة:23]، وقال تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران:122]. وأمر الله رسوله- صلى الله عليه وسلم- بالتوكل، فقال: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) [النمل:79].

طاعة الله والكف عن معاصيه: فالطاعات أغذية للقلوب، كما أن المعاصي سموم تصيب القلب في مقتل، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال: 24]. فمهما أطاع العبد ربه والتزم أوامره، وانتهى عما نهى عنه كان قويا في مواجهة الفتن، ومهما كان مفرطاً في اتباع الشرع، مقبلاً على المعاصي كان ضعيفاً أمام الفتن.

صحبة الصالحين: وهي تشد من أزر المسلم في استقامته وتعينه على التمسك بدينه- خصوصًا وقت الفتن-، وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل” (أبو داود).

إعلان الافتقار الله: فليس بالعبد غناء عن ربه طرفة عين، فإن لم يثبته ربه ضل وهلك وقد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) [الإسراء: 74].
كثرة ذكر الله عز وجل: فالله جل وعلا يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) [الأحزاب: 41 – 43].

الصبر والصلاة: قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا ‌بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 153]، قال ابن كثير- رحمه الله- في تفسيره: “الصَّلَاةَ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى الثَّبَاتِ فِي الْأَمْرِ، وقال تعالى: (اتْلُ ‌مَا ‌أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت: 45]. وقال السعدي- رحمه الله- في تفسيره: “وجه كون الصلاة تنهى عن ‌الفحشاء ‌والمنكر أنَّ العبد المقيم لها، المتمم لأركانها وشروطها وخشوعها، يستنير قلبه، ويتطهر فؤاده، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وتقل أو تعدم رغبته في الشر، فبالضرورة مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه تنهى عن ‌الفحشاء ‌والمنكر، فهذا من أعظم مقاصدها وثمراتها”. 

نصرة الحق: ومن أهم مقومات الثبات وأسبابه نصرة الحق والانتصار له. يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: ٧]. فالجزاء من جنس العمل، وهذا أمر منه تعالى للمؤمنين أن ينصروا الله بالقيام بدينه، والدعوة إليه، وجهاد أعدائه، والقصد بذلك وجه الله؛ فإنهم إذا فعلوا ذلك، نصرهم الله وثبت أقدامهم، أي: يربط على قلوبهم بالصبر والطمأنينة والثبات، ويصبر أجسامهم على ذلك، ويعينهم على أعدائهم، فهذا وعد من كريم صادق الوعد، أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه، وييسر له أسباب النصر، من الثبات وغيره.

القرب من العلماء العاملين: فهم ورثة الأنبياء الذين يأخذون بأيدي أتباعهم إلى الله، قال أنس- رضي الله عنه-: “لمَّا كانَ اليومُ الَّذي دخلَ فيهِ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ المدينةَ أضاءَ منْها كلُّ شيءٍ، فلمَّا كانَ اليومُ الَّذي ماتَ فيهِ أظلمَ منْها كلُّ شيءٍ، ونفَضنا عن رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ الأيدي وإنَّا لفي دفنِهِ حتَّى أنْكَرنا قلوبَنا” (الترمذي). وقال الله عز وجل في حق رسوله مع أمته: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [آل عمران: 164].

البعد عن مواطن الفتن: فلا يعرِّض المسلم نفسه لها، قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “‌ستكون ‌فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ومن يشرف لها تستشرفه..” (البخاري ومسلم). وقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “إن السعيد لمن ‌جُنِّب ‌الفتن، إن السعيد لمن ‌جُنِّب ‌الفتن، إن السعيد لمن ‌جُنِّب ‌الفتن..” (أبو داود بسند صحيح). وقال الإمام ابن تيمية- رحمه الله-: “إذا تعرَّض العبد بنفسه إلى البلاء ‌وكله ‌الله ‌إلى ‌نفسه”.

عاقبة الثبات على الإيمان

وعاقبة الثبات على الإيمان يُحصّلها المؤمن في الدنيا والآخرة، ومنها:

صلوات الله ورحمته: كما في قوله الله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 155- 157]. تبين الآيات أن أهل الابتلاء والثبات عليه تتنزل عليهم الصلوات، والرحمة والأجر العظيم، وما نالوا هذا الأجر إلا بثباتهم ورضاهم بقدر الله تعالى وحمدهم له.

التثبيت في القبر: ثبات المؤمن على الشهادتين في حياته وقبل مماته يؤدي إلى ثباته عند موته ودخول قبره، وذلك استقرار النهاية والحياة الأبدية. يقول تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم: 27].

الطمأنينة واليقين: فثبات الإنسان على الحق والإيمان يعطي طمأنينة في القلب، وبخاصة إن كان هذا الثبات من الله تعالى، يقول سبحانه: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود: 120].

بلوغ الغايات والأهداف: ويراد بذلك تحقيق الأهداف في الدنيا أو في الآخرة، وذلك ظاهر من ثبات الرسل والأنبياء ومن آمن بهم واتبع نهجهم على مدار الوقت؛ لقوله تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة: 21]. ولا تكون غلبة دون ثبات، فالرسل ثباتهم واقع بتثبيت الله لهم، والمؤمنون كذلك ثباتهم واقع من إيمانهم بالله ورسله، واتباع نهجه، ولا يكون تحقيق الأهداف إلا بالثبات.
زيادة الإيمان ورسوخه: ثبات الإنسان على دينه يؤدّي إلى زيادة الإيمان ورسوخه في القلب. يقول تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل: 102].

قوة العزيمة: فخوض المعارك ليس بالأمر الهيّن؛ لذا فالإنسان بحاجة إلى عزيمة قوية ليقوم بالدفاع والقتال، وذلك ناتج عن ثباته ورباطة جأشه؛ لذا كان إمداد الله بالملائكة في غزوة بدر لتثبيتهم وتقوية عزمهم. يقول تعالى: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) [الأنفال: 12].

النصر: قال تعالى: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة: 250]. وعندما نتأمل كلمة: (أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا) تفيدنا أنهم طلبوا أن يملأ الله قلوبهم بالصبر، ويكون أثر الصبر تثبيت الأقدام (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)؛ حتى يواجهوا العدو بالإيمان، وعند نهاية الصبر وتثبيت الأقدام يأتي نصر الله للمؤمنين على الكافرين، وتأتي النتيجة للعزم الإيماني في قوله الحق: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ).

إنّ الثباتُ على الإيمان مطلبُ كلِّ مسلمٍ صادقٍ، ومنتهى كلِّ عابدٍ موفقٍ، وديدن الأنبياء والمرسلين، والأولياء الصالحين، والحاجةُ له ماسّة في كلِّ آنٍ وحين، وبخاصةً في زمان كثر فيه المتساقطون على الطريق من عامة الناس وخاصتهم. وإذا كان الثباتُ على الإسلام وصيةَ الأنبياء والمرسلين، فإنه في زمان الاختلاف والافتراق يكون غايةَ كلّ أصحاب المنهج الحق.