يحاول بعضهم التعالي على حقيقة أننا نعيش داخل حرب إقليمية دائرة منذ قرابة العام، وتتعدد جبهاتها من فلسطين ولبنان واليمن إلى الأردن والعراق وسورية وإيران. تقف فيها إسرائيل والولايات المتحدة في خندق متماسك إلى حد كبير وبظهير تمويلي وتسليحي غربي قوي، بينما تحاول قوى المقاومة، وأغلبها فواعل من دون الدولة في المنطقة، لملمة شتاتها وفعل ما تستطيع للدفاع عن الأرض والعرض العربي بلا أي ظهير رسمي مع الأسف، وعلى أقصى تقدير هو ظهير كلامي في المحافل الدولية لذرّ الرماد عن الأنظمة الرسمية العربية مع هامش امتعاض شعبي وحراك طلابي مناوئ عربي وعالمي.
أبدت مصر، في بداية الحرب، محاولة لمنع التصعيد ولعب دور الوسيط بالمفاوضات ويزاحمها فاعلون إقليميون كثر، وكانت تتخوّف من سيناريو التهجير من دون تقديم أي فعل أو ردّ فعل يمكن أن يساهم بمنع هذا التهجير، مثلها في ذلك مثل الأردن، فكلتاهما لم تكونا تتوقعان حربا ممتدّة عاماً أو صمودا للمقاومة بهذا الشكل، ثم لم تكونا تتوقعان توسع الحرب، بل لا تزالان تتحدّثان عن منع توسع الحرب أو توقفها، حتى بعد الاستهداف الإسرائيلي الواسع للبنان واليمن وطهران.
تتحدّث إسرائيل وحلفاؤها عن إعادة رسم الشرق الأوسط بينما يبقى حلم النظامين في مصر والأردن وبعض العواصم العربية فقط الخلاص من صداع المقاومة وقياداتها الذين يمثل صمودهم وخطاباتهم حرجا مستمرّاً وصداعاً مزمناً لبعض الأنظمة، ومعطّلا لمشروعاتهم الرامية إلى التطبيع الكامل والتسليم بالوضع الراهن والانسحاق التام أمام مقولات انهزامية تنطلق من أننا نحارب أميركا لا إسرائيل، وليس بالإمكان هزيمتها، ومن ثم لا جدوى للمقاومة وعلينا التعايش مع هذا الواقع المأزوم.
تسيطر على الجدل الرسمي المصري ما تريد أن تسرّبه إسرائيل وحلفاؤها بتحويل الصراع الوجودي لصراع حول نقاط التمركز فتتراجع عن مقولات عدم السماح ببقاء قوات في محوري صلاح الدين ونتساريم أو المعابر للحديث عن التوافق على خرائط الانتشار، فتدرك إسرائيل أنها تفاوض نفسها فلا وسيط أو طرفا قويا إقليميا يعرف مصالح شعبه، ويمكن أن يستغل ضعف الكيان الإسرائيلي الذي كشفته ضربات المقاومة، فكأنما تأخذ ضوءا أخضر لتوسيع الحرب الي جبهة الشمال وكأنه السياق الإقليمي الأمثل للقضاء على حزب الله وحركة حماس والجهاد وأية حركة مقاومة يمكن أن تعوق صفقة القرن ومشروع التطبيع الإقليمي الكبير حتى أن إسرائيل ملت من هذا التفاوض مع نفسها ولم تعد تريد التفاوض.
يسيطر على الشارع في مصر، كما توضح السوشيال ميديا، صراعات في قضايا المرأة وصراعها مع الرجل والزوج والقوامة وصراعات النخبة الفاشلة مع المجتمع وأفكاره، وهذا بالتوازي مع الصراعات الرياضية المتهافتة، سواء بشأن الأوليمبيات أو الدوري المصري أو غيره، بينما المنطقة في قلب حرب ولا يستطيع مركز بحثي أو كلية للعلوم السياسية أن تقيم ندوة أو تقدم أوراقا تناقش هذا الوضع وتداعياته على البلاد والعباد.
مصر التي قامت الحرب في آخر الدنيا بين روسيا وأوكرانيا فتأثرت عملتها واقتصادها أكثر من اقتصاد وعملات البلدين المتحاربين ذاتهما، وتضخّمت أسعار السلع فيها أكثر من الطبيعي، وكيف لا وهي المستورد للغذاء والطاقة وغالبية السلع الوسيطة، والحال بائسٌ كذلك، تتحول البلاد مفعولا به وجزءاً من ملعب دولي وإقليمي، مصر هذه لا تستطيع أن تكون حتى لاعب احتياط في دول على حدودها وجوارها المباشر وعمقها الاستراتيجي الذي يؤثر بها ويتأثر وينتظر دورا أو فعلا يقلب الطاولة، فلا يقابل إلا بالصمت المطبق، وكأننا في دولة متحللة من أدوارها في الداخل والخارج مع الأسف الشديد.
يعلق بعض المواطنين المصريين والأردنيين بحرقة شديدة على الدور الإقليمي المفتقد بأن لمثل هذا الموقف الصامت، ولمثل تلك الأيام كانت اتفاقيتا كامب ديڤيد ووادي عربة تحييداً كاملاً لدول الجوار الهامة التي تقول معادلات التاريخ والجغرافيا السياسية والسنن الكونية إنه لا تحرير بدونها، فلا تحرير لفلسطين من دون دولة قوية ونظام قوي بمصر والشام شام التاريخ الذي يشمل الأردن ولبنان وسورية. ومع الأسف، الوضع حالياً أن ثمّة أنظمة ضعيفة تجاه الخارج قوية تستأسد على شعوبها ومجتمعات فكّكتها الأنظمة وأهلكتها في استقطابات حادّة وتجتاحها قوى الطائفية فتقدم للعدو موقفاً مشتّتا على أطباق من ذهب، موقفا يشمت بعضه بموت حسن نصر الله، فيما يشمت آخرون بموت إسماعيل هنيّة، وتخوّن فيه المقاومة على صفحات صحف وقنوات لا يمكن أن نسميها إلا عبرية ناطقة بالعربية حتى لو تسمّت بالعربية.
وينتظر بعضهم هلاك كل خصومه متفرّجا ويعتبرها حربا على إيران وأذرعها، إن لم يكن مروّجا شائعات أنها حرب وهمية بالتوافق بين إيران وإسرائيل، بينما هي قطعاً ليست حربا على أذرع إيران في المنطقة، ولن يضرب الله الظالمين بالظالمين، ويخرجنا من بينهم سالمين، كما يحلو لبعضٍ من العامة، ومن مشايخ التيار السلفي المدخلي ومتصوّفي الأنظمة العربية والدراويش أن يدعوا على المنابر منذ سنين. وليس هناك راكب مجاني رابح في هذه الحرب، وإذا كان هناك، فهو ليس بالتأكيد مصر ولا الأردن. هناك انتقال مطلوب من مساحة رد الفعل إلى الفعل الجماعي العربي المؤثر الذي يستطيع فعلا إيقاف تلك الحرب الدائرة في سمائه وبحره وبرّه، وليس أقل من قطع النفط أو التهديد به، وهو أمر مفيد جدا من الناحية البراغماتية لكل الدول النفطية والدول المصدرة للعمالة إلى دول النفط المتلقّية للتحويلات وأكبرها مصر.
عام مر على الحرب الدائرة على حدود مصر الشرقية التي كانت ولا تزال مصدر التهديد الأكبر للأمن القومي المصري على مر التاريخ، ولا تزال مصر في دائرة التنديد والإدانة والمطالبات، كما لو أنها في منطقة أخرى من العالم، بل يستغرب بعضهم أن موقف دول عديدة في شمال أوروبا وأميركا اللاتينية وأفريقيا أكثر استقامة ودعما للقضية الفلسطينية من مواقفها تلك، التي لا تخدم أمن مصر القومي أو دورها الإقليمي المفترض أو حتى تساهم جدّيا في وقف التصعيد، ولا تستطيع قيادة إجماع عربي وإسلامي وأممي من أجل وقف تلك الحرب أو حتى إدخال المساعدات الغذائية والصحية والإنسانية إلى قطاع غزّة الذي يشهد حرب إبادة جماعية لن يستطيع أحد أن يتحمّل عواقبها أو يمحو ذلك الموقف المخزي منها من سجل سياسة مصر الخارجية وأرشيفها.