لا أظنّ أنّ حملة مقاطعة للشركات الداعمة للكيان الصهيوني سبق أن نجحت كما نجحت أخيراً. كلّ يوم تقريباً نقرأ خبراً أو أخباراً جديدةً تتعلّق بتلك الشركات، وتصبّ في النهاية في صالح المقاطعة ونتائجها الإيجابية.
صحيح أنّ أفراداً كثيرين شعروا بالملل من طول الحملة واستمرارها، أو باللاجدوى منها أساساً، وهم يروْن استمرار العدوان على غزّة واشتداد التقتيل والتدمير، بل وامتداده الى جغرافيات جديدة، لبنان وسورية مثلاً، لكنّ هذا كّله لم يُؤثّر في نجاح الحملة.
يُقاس النجاح بالنتائج المتوقّعة والمرجوة من المقاطعة، وعلى هذا الصعيد لم يكن ليتوقّع أحدٌ أنّ المقاطعةَ أداةٌ فاعلةٌ لإيقاف العدوان مباشرةً، بل الغرض منها (في أقلّ إيجابياتها) إشاعة الوعي بالقضية الفلسطينية واستحقاقاتها بالنسبة لجميع البشر، وإعادتها لواجهة اليوميات البسيطة للمتضامنين معها، وهذا ما حدث فعلاً.
أتابع مثلاً تعليقات مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي على كل إعلان يصوره أحد مشاهير هذه الوسائل لصالح منتج من الشركات الداعمة للكيان، وأرى مدى الوعي والصرامة والحزم في هذه التعليقات، وهو ما يُساهم بفشل تلك الإعلانات ويجعلها تأتي غالباً بنتائجَ عكسية.
وهذا يعني أنّ حملة مقاطعة منتجات الشركات الداعمة للكيان الصهيوني، التي انطلقت بعد "طوفان الأقصى"، وبالتحديد بعد العدوان الصهيوني السافر على غزّة، حملةٌ تاريخيةٌ بامتياز، وما ميّزها فعلاً أنّها كانت حملةً عفويةً، ولم يكن مخطّطاً لها بدقّة، لكنّها عبّرت عن شعور المتضامنين مع القضية الفلسطينية في كلّ أنحاء العالم بالعجز تجاه ما يحدث، ولم يكن أمامهم سوى اللجوء إلى سلاح المقاطعة، الذي أظنّ أنّه بدأ حركةً رمزيةً سرعان ما تحوّلت فعلاً حقيقياً.
وهذه الحملة المستمرّة حتّى بعد مرور عام على الطوفان لها دلالات عميقة في الوعي العربي، فهي واحدة من الأطول والأكثر تأثيراً، فعكست تضامن الشعوب العربية مع القضية الفلسطينية، وأظهرت رفضها للاحتلال وللإجراءات الإسرائيلية. كما أنّها أدّت إلى زيادة الوعي بحقوق الفلسطينيين وبضرورة دعمهم، ما جعل كثيرين يعيدون تقييم خياراتهم الشرائية والسلوكيات اليومية.
ولا يستطيع أحدٌ أن يتجاهل أنّ حملة المقاطعة تمكَّنت من إيجاد حالةٍ من الضغط على الشركات التي كانت تدعم الاحتلال، ما دفع بعضها إلى اتخاذ خطواتٍ للتراجع عن تعاملاتها مع الكيان الصهيوني، أو على الأقلّ تقليل حجم تلك التعاملات أو إخفائها قدر المستطاع. وساهمت وسائل التواصل في تعزيز الحملة من خلال نشر المعلومات والقصص الحقيقية عن معاناة الفلسطينيين، ما أدّى إلى إيجاد شعور جماعي بالمسؤولية والانتماء، وساعد في توسيع دائرة التضامن مع القضية الفلسطينية.
علاوة على ذلك، كانت هناك مبادرات شعبية عديدة، مثل تنظيم فعاليات ومظاهرات لدعم المقاطعة، وهذا شارك في نشر الوعي بشكل أكبر وزيادة المشاركة. وأظهرت الحملة كيف يمكن للفرد أن يكون له تأثير ملموس من خلال خياراته اليومية.
صحيح أن الحملة بدأت عفوية، إلّا أنّها لم تكن مُجرَّد ردَّة فعل عابرة، بل يمكن اعتبارها بدايةً لوعي جماعي أعمق، إذ أصبح الناس أكثر إدراكاً لتأثير خياراتهم الاقتصادية على مسارات القضية وأهمّية دعم العدالة والحقوق الإنسانية. وهذه الحملة قد تفتح آفاقاً جديدةً لمزيد من النشاطات الشعبية، وهو ما يُعزّز قدرة المجتمعات العربية على التصدّي للاحتلال والدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني بما تملكه من خيارات متاحة. المهم الاستمرار والدأب.
وعلى هذا الصعيد، علينا أنّ نعرف أنّ كثيرين بدأوا بالمقاطعة وانتهى الأمر بهم إلى الاستغناء الحقيقي عن منتجات الشركات الداعمة للكيان، بعدما اكتشفوا أن هناك بدائلَ وطنيةً كثيرةً أفضل وأرخص لم يكونوا ليعرفوها تحت هالة الدعايات للمنتجات الشهيرة. لكن علينا التأكيد دائماً أنّ المقاطعة لا تهدف للبحث عن الأفضل والأرخص، بقدر ما تهدف إلى البحث عن دورٍ فاعلٍ لنا في معركة لا نملك إلّا القليل من الأسلحة المتاحة للدخول فيها.