كونك ملتزمًا خيمتك، مجردًا من كل سلاح محتمل، مستجيبًا للنداء الذي يطالبك بالتوجه إلى المناطق الإنسانية الآمنة، فإن هذا لا يجعلك بمأمن من الاستهداف، فقد تستيقظ فجأة على النيران وهي تلتهم جسدك وتصيره فحمًا.. حينئذ ليس هناك مجال للعجب إذا ما كنت من سكان غزة، خاصة رفح، وعدوك هو الكيان الإسرائيلي المجرم.

ارتكب جيش الاحتلال الإسرائيلي، مساء الأحد 26 مايو/آيار الحاليّ، مجزرة جديدة في منطقة تل السلطان غربي مدينة رفح، حين استهدف بالطائرات والصواريخ مخيمًا للنازحين هناك أسفر عن استشهاد نحو 35 فلسطينيًا وإصابة العشرات، معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ.

تلك المحرقة التي جرت على مرأى ومسمع من الجميع، وعلى الهواء مباشرة، حيث شاهد العالم صور الأجساد التي أذابت النيران ملامحها، والأخرى التي فُصلت رؤوسها عنها، والثالثة المشوهة التي يصعب معها التعرف على هوية أصحابها، في مشاهد تعيد الأذهان إلى عصر المحارق العظمى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي.

وتأتي تلك الجريمة بعد أيام قليلة من قرارات محكمة العدل الدولية التي طالبت الاحتلال بإنهاء عملياته في رفح بشكل فوري، لتضرب حكومة بنيامين نتنياهو بالمحكمة وقراراتها والمجتمع الدولي برمته عرض الحائط، وسط إصرار ممنهج من كل التيارات السياسية الإسرائيلية – بما فيها المعارضة – على استكمال العملية البرية في رفح أيًا كانت النتائج والكوارث الإنسانية المحتمل حدوثها.

محرقة جديدة تضاف إلى سجل الاحتلال الإجرامي الذي يُخرج به لسانه إلى المجتمع الدولي بصفة عامة والحكومات العربية على وجه الخصوص، غير مبال بالمناشدات والتحذيرات التي تضغط لإثنائه عن تلك العمليات التي ما كان له أن يتجرأ عليها إلا لاطمئنانه لرد الفعل العربي المتخاذل والصمت الدولي المعتاد.


سياق مهم ورسائل شتى
بداية لا بد من الإشارة إلى السياق العام الذي جرت فيه تلك المحرقة، حيث تزايدت الضغوط على حكومة نتنياهو، سواء من المجتمع الدولي عبر محكمة العدل الدولية التي أمرت بوقف كل العمليات في رفح، أم الجنائية الدولية التي طالب مدعيها العام بإصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه يواف غالانت بسبب الجرائم المرتكبة في غزة، فضلًا عن الضغوط التي تمارسها المقاومة من خلال إدارتها الناجحة لملف الأسرى والمحتجزين، لا سيما بعد المقطع الأخير الذي نشرته وأججت به الشارع الإسرائيلي المنتفض تنديدًا بالحكومة والمطالب بإقالتها وإجراء انتخابات عامة مبكرة.

هذا بخلاف موجة الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، وآخرها إسبانيا وأيرلندا والنرويج، الخطوة التي يقابلها بطبيعة الحال تقليص الدعم الموجه لـ”إسرائيل”، لا سيما لدى حلفائها الأوروبيين التقليديين، وهي الصدمة الدبلوماسية التي يبدو أن الكيان المحتل لم يستفق منها بعد.

كل هذا حشر الكيان المحتل في زاوية ضيقة وحوله إلى ثور هائج يحاول لملمة شعثه قدر الإمكان وفي أسرع وقت ممكن قبل أن ينفرط عقد الدولة الهشة، فكانت محرقة الخيام التي كشفت عن حالة ارتباك وفوضى وفقدان رؤية وبصيرة يعاني منها نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة.

ورغم تعدد الرسائل التي يبعث بها الاحتلال من وراء تلك المحرقة، لكن أبرزها ما هو موجه للمجتمع الدولي حيث رفض مساعي فرض العزلة على الكيان، وتقليص الدعم الدولي المقدم له، والضغط على المؤسسات الدولية لإعادة النظر في سياساتها تجاه “إسرائيل” من خلال ارتكاب جرائم وكوارث إنسانية من هذا النوع.

كذلك مغازلة اليمين المتطرف الرافض لأي تهدئة من شأنها إيقاف الحرب، والداعم الأقوى لاجتياح رفح، وهي الورقة التي يحاول نتنياهو التشبث بها كونها الضمانة الوحيدة حاليًّا لإبقاء الحكومة على قيد الحياة في ظل الخلافات التي تضرب علاقته بالتيارات الأخرى.

هذا بخلاف الضغط على حماس والوسطاء، مصر وقطر، لأجل تقديم تنازلات إضافية وإبداء مرونة أكبر على طاولة المفاوضات، خاصة أن تلك المجزرة تتزامن مع وجود وفد إسرائيلي في باريس لاستئناف مباحثات التوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى.

التغطية على الفشل الميداني
وبينما تقارب حرب غزة شهرها التاسع لم يحقق الاحتلال أيًا من الأهداف الـ3 التي أعلن عنها بعد عملية الطوفان، أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فلا حرر أسيرًا بالقوة ولا قضى على حماس وفصائل المقاومة، فضلًا عن فشله في ضمان ألا يشكل القطاع تهديدًا أمنيًا للداخل الإسرائيلي.

وأمام هذا الفشل الذي قوبل بانتقادات وغضب شعبي داخلي حاد، وضغوط إقليمية ودولية متصاعدة، ومع صمود المقاومة وتكريسها لمعادلة ردع جديدة تقوم على سياسة الند بالند، لم يجد جيش نتنياهو سوى الاستئساد على المدنيين من النساء والأطفال لإيقاع أكبر قدر من الضحايا، يسوقه كانتصار يحفظ به ماء الوجه.
وبات يقينًا لدى رئيس الحكومة ومجلس الحرب وأعضاء اليمين المتطرف أن الأرض المحروقة هي الإنجاز الوحيد المحتمل تحقيقه في تلك المعركة، وأن مسألة هزيمة المقاومة والقضاء على حماس هدف بعيد المنال، إن لم يكن مستحيلًا بحسب شهادات جنرالات الجيش الإسرائيلي ونخبته السياسية.

وفي الوقت الذي كان يراهن فيه البعض في الداخل الإسرائيلي على عدم قدرة المقاومة على الصمود مع إطالة أمد الحرب، إذ بها تلقن الاحتلال دروسًا قاسية في فن القتال وقراءة المشهد بصورة مدروسة غير متوقعة، فبعد أكثر من 234 يومًا من المواجهات لا تزال صافرات الإنذار تدوي في تل أبيب وعسقلان ومدن الغلاف، هذا بخلاف تصاعد العمليات النوعية وأسر جنود إسرائيليين جدد.

وفي ظل هذا المشهد المرتبك والمتلعثم بالنسبة لحكومة الحرب في “إسرائيل”، الذي ينذر بنهاية مخزية لتلك المعركة، كان البحث عن انتصارات وهمية لمداراة هذا الفشل، عبر قصف الخيام وحرق من فيها، الإستراتيجية الوحيدة حاليًا لدى نتنياهو وحكومته قبيل الجلوس على مائدة المفاوضات، أملًا في كسب نقاط تقوي موقفه التفاوضي.

لماذا لم ينفذ قرار العدل الدولية؟
لا شك أن الرسالة الأبرز الموجهة من خلال تلك المجزرة من نصيب محكمة العدل الدولية صاحبة القرار القاضي بوقف أي عمليات عسكرية إسرائيلية في رفح، الأمر الذي يدعو للتساؤل: لماذا لم يُنفذ هذا القرار؟ ولماذا لم يُفتح معبر رفح وتدخل المساعدات للمحاصرين كما قضت المحكمة؟ ثم السؤال الأكثر إلحاحًا: هل تحول المحكمة قراراتها لمجلس الأمن بصفته الضامن الوحيد لتنفيذها وإرغام “إسرائيل” على الرضوخ لها؟

يعلم الجميع أن أمريكا هي الوحيدة التي يمكنها ردع حكومة نتنياهو، وأن إدارة بايدن طالما صرحت بأن جنرالات الاحتلال قد تعهدوا بدقة عملياتهم في رفح وتجنيب أي استهدافات للمدنيين، بل أعلن البيت الأبيض أكثر من مرة أنه لا يجد أي تجاوز من جانب جيش الاحتلال في عملياته برفح وغيرها من مناطق غزة.


وعليه فإن محرقة الخيام الراهنة ستزيد من حرج إدارة بايدن والبيت الأبيض أمام المجتمع الدولي، وتعزز تشويه السمعة الأمريكية التي لطختها الازدواجية الفاضحة والتناقض الفج في التعاطي مع القرارات الدولية والمبادئ الحقوقية والإنسانية التي صدع بها الأمريكان رؤوس العالم لعقود طويلة، لا سيما مع استمرار دعم الاحتلال بالسلاح رغم تهديد واشنطن بوقف هذا الدعم إذا ما شن عملية برية في رفح، وهو التهديد الذي لم ينفذ بعد.

إن التلكؤ في تنفيذ قرارات العدل الدولية، والتحايل لعدم تنفيذها، وعدم ممارسة الضغوط الكافية على حكومة نتنياهو وجيشه الإجرامي، سيضع القانون الدولي والإرادة الدولية بصفة عامة في مأزق كبير، ينسف به جهود المنظومة العالمية بعد الحرب العالمية الثانية لتكريس نظام قائم على احترام القانون والقرارات الأممية الصادرة عن المنظمات الدولية.

ماذا عن الموقف العربي.. المصري تحديدًا؟
وقعت تلك المجزرة على بعد أمتار قليلة من الحدود المصرية الفلسطينية، رغم التحذيرات الصادرة عن القاهرة بشأن ارتكاب كوارث إنسانية في هذه المنطقة تدفع نحو التهجير القسري للأراضي المصرية، أو تعمق من مأساة ومعاناة أكثر من مليون ونصف مواطن محاصرين في هذا الحزام الضيق.

وعلى مدار أكثر من 20 يومًا تعربد فيه قوات الاحتلال في محور فيلادلفيا الحدودي، بما يزدري اتفاقية السلام الموقعة بين مصر و”إسرائيل”، فضلًا عن التحرشات المتكررة بالجنود المصريين الموجودين على الشريط الحدودي والجدار العازل في رفح، إلا أن القاهرة اكتفت بالتصريحات المنددة والبيانات الإعلامية التي عبرت من خلالها عن شجبها واستنكارها لتلك التحركات دون التلويح من قريب أو بعيد بأي ورقة ضغط تمتلكها ويمكنها قلب الطاولة وتغيير المعادلة جذريًا.

واكتفت الخارجية المصرية ببيان إعلامي أدانت فيه ما أسمته “الحادث المأساوي” الذي تهدف من خلاله دولة الاحتلال توسيع رقعة القتل والدمار في القطاع لجعله غير قابل للحياة، مطالبة مجلس الأمن والأطراف الدولية المؤثرة بضرورة التدخل الفوري لضمان وقف إطلاق النار وإنهاء العمليات العسكرية فورًا.

بيان كهذا لا يليق بدولة بحجم مصر، كما أنه يتنافى شكلًا ومضمونًا مع المسؤولية التاريخية والأخلاقية الواقعة على الدولة المصرية، بما لها من ثقل إقليمي مؤثر، فضلًا عن تناقضه مع مرتكزات الأمن القومي المصري التي تنطلق في أحد مساراتها الرئيسية من العمق الفلسطيني، كما هو الحال في العمق الليبي والسوداني.

ولم يختلف الموقف العربي في مجمله عن نظيره المصري، فالجميع اكتفى – كالعادة – ببيانات الشجب والإدانة، وهو الحد الأقصى لرد الفعل العربي خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي أرسل برسائل طمأنة واضحة ومباشرة للكيان الإسرائيلي ومنحه الضوء الأخضر لارتكاب ما يريد من جرائم وتنفيذ ما يحلو له من انتهاكات ومحارق، دون أي قلق من حراك عربي محتمل، بعدما وُضع القرار العربي في ثلاجة الخذلان والانبطاح في ظل مقاربات وحسابات مخزية.
قد لا يجد الاحتلال جدوى من استمرار وجوده في رفح بعد تلك المجزرة التي أوصل من خلالها رسائله المستهدفة، غير أن احتمالات التصعيد الإسرائيلي في جنوب القطاع بصفة عامة تتوقف على مسارين لا ثالث لهما، أداء محور المقاومة ميدانيًا، لا سيما داخل قطاع غزة، ومواصلة العمليات النوعية التي تكبد الاحتلال خسائر تلو الأخرى بما يشتت أوراقه ويعزز من الضغط الداخلي عليه، ثم تطورات المفاوضات وحجم المرونة المحتملة بين الطرفين، إذ إن أحد الأهداف الرئيسية لتلك المجزرة تقوية الموقف التفاوضي للفريق الإسرائيلي ودفع حماس إلى تقديم تنازلات إضافية، هذا بخلاف حجم ومستوى الضغوط المحتمل أن يمارسها المجتمع الدولي، وفي الأغلب لا يتم التعويل عليها كثيرًا في ظل الحصانة الأمريكية للاحتلال منذ بداية الحرب.

منذ بداية حرب غزة، ورغم الخذلان العربي الفاضح ابتداءً، فإن الأجواء منحت الحكومات العربية أكثر من فرصة لتصحيح المسار والعودة وإن كانت متأخرة، إلا أن جميع الفرص بلا استثناء تم هدرها، ليواصل قطار الانبطاح مساره دون توقف، فهل آن الأوان ليتوقف هذا القطار أمام محطة محرقة النازحين في رفح؟ هل هناك من أمل في استغلال ولو فرصة واحدة يحفظ بها العرب كرامتهم وعزتهم في مواجهة عدو لا يبالي بحلفائه ولا يضع لهم اعتبارًا؟

المصدر / نون بوست