سعيد الحاج

كاتب وباحث فلسطيني

 

طالت الحرب على غزة كما كان متوقعًا على نحو واسع، أو ربما على عكس ما توقع البعض، ما عزز الأسئلة والنقاش حول توقيت نهايتها والعوامل التي يمكن أن تسهم في ذلك. العوامل المحتملة لم تتغير منذ بداية الحرب، وهي مرتبطة ببعضها البعض بأشكال مباشرة وغير مباشرة، وتتمثل في الخسائر "الإسرائيلية" في الحرب وخصوصًا ميدانيًا، وتراجع الدعم الخارجي وخصوصًا من الولايات المتحدة الأمريكية، وضغط الداخل "الإسرائيلي" جماهيريًا أو سياسيًا وخصوصًا في ملف الأسرى.

ولأن الخسائر البشرية والعسكرية والاقتصادية وغيرها تحولت لشيء يمكن للاحتلال تحمله والتعايش معه من باب تقييم المواجهة الحالية كحرب وجودية، ولأن تطورات المشهد الداخلي لدى الاحتلال لم تطرأ عليها تغيرات جذرية حتى اللحظة رغم بعض المؤشرات المهمة، تتركز الأنظار مؤخرًا نحو الموقف الأمريكي لمحاولة استشراف مدى تأثيره على مسار الحرب.

أحد أسباب هذا التركيز هو ما يرشح في الأخبار مؤخرا عن خلافات وتوترات بين الإدارة الأمريكية وحكومة الاحتلال، والتغيرات الطفيفة -لكن المهمة- في الموقف الأمريكي من الحرب وبخصوصها، ومرد ذلك لقراءة تقول إن إدارة بايدن تتعرض لخسائر بسبب موقفها.

ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية ومنذ السابع من أكتوبر الفائت تدخلت في الحرب بالانخراط المباشر إلى جانب الاحتلال، عبر إحضار حاملات الطائرات للمتوسط، وتصدير السلاح للاحتلال، وتقديم غطاء سياسي كامل لعدوانه، وتبنٍّ رسمي كامل لروايته، لدرجة أنه يمكن القول دون مبالغة كبيرة إن واشنطن أدارت الحرب ولم تكتف بالدعم.

وقد هدف هذا الموقف الأمريكي إلى تقديم الدعم للكيان ولا شك، إضافة لأهداف أخرى كتثبيت جبهته الداخلية وطمأنته، وتأمين غطاء كامل للمؤسسة العسكرية "الإسرائيلية" للقيام بما تريد وتحقيق أهدافها في غزة، وضمان استفرادها بغزة ومقاومتها بتحذير وردع مختلف الأطراف. ومن اللافت أن معظم دول المنطقة -العربية والمسلمة- قد التزمت بسقف أمريكي غير معلن، إذ بقيت المواقف في غالبيتها الساحقة عبارة عن مواقف كلامية لا صدى عمليًا لها مع البقاء في صفوف المتفرجين، وهو ما يعني عمليا السماح بالعدوان "الإسرائيلي" وانتظار تحقيق أهدافه، ولم يشذ عن هذه القاعدة إلا فواعل ما دون الدولة وفي مقدمتها حزب الله في لبنان والحوثيون في اليمن.

وعليه، يبدو السؤال وجيها، وهما على الحقيقة سؤالان لا سؤال واحد؛ هل الخلاف بين الولايات المتحدة ودولة الاحتلال حقيقي؟ وهل هو مؤثر في مسار الحرب؟ أي أنهما سؤالا الحدود/المدى والتأثير/النتيجة.

وقبل الولوج للبحث ومحاولة تقديم إجابات، ينبغي التذكير بأن الولايات المتحدة تعد هذه الحرب حربها وليست مجرد داعم لأحد طرفيها. فمن جهة كانت عملية طوفان الأقصى ضربة قاسية لما يُعد قاعدتها العسكرية أو حاملة طائراتها الكبرى في الشرق الأوسط، كما توصف عادة دولة الاحتلال، التي من المفيد استحضار أنها مجرد مشروع للغرب الاستعماري في منطقتنا. ومن جهة ثانية فالعملية أجّلت و/أو أضرت بعدد من المشاريع والمسارات الأمريكية في المنطقة، من محاولات تخفيف الحضور للتركيز على مناطق ونزاعات أخرى، لمشاريع التطبيع مع الاحتلال، للمشاريع الاقتصادية التي ستربط دولة الاحتلال بالدول العربية، لغير ذلك.

بالنظر لما سبق من اعتبارات وللتصريحات الأمريكية المتكررة والمواقف المتغيرة نسبيًا، لا شك أن ثمة خلافًا لا تخطئه العين بين الجانبين الأمريكي و"الإسرائيلي"، لكنه ليس خلافًا بين الولايات المتحدة و"إسرائيل" وإنما بين الإدارة الأمريكية والحكومة "الإسرائيلية"، والفارق بين الأمرين ليس هامشيًا ولا تفصيليًا فضلًا عن أن يكون مجرد تباين لفظي.

ولو تتبعنا التصريحات الأمريكية المسربة للإعلام بهذا الخصوص لن نجد فيها معنى الاعتراض على الحرب ولا على "دولة إسرائيل"، وإنما على الحكومة بل تحديدًا على بعض "المتطرفين" فيها أمثال بن غفير وسموتريتش، الذين ترى واشنطن أنهم لا يتصرفون بحكمة وبالتالي يضرون بمصالح "إسرائيل" -وليس فقط الولايات المتحدة- الإستراتيجية. هنا، تتصرف الولايات المتحدة كـ"أم الولد" الأحرص منه على مصلحته، ولذلك يتكرر في تصريحات المسؤولين الأمريكان تنبيه نظرائهم "الإسرائيليين" لمصالحهم طويلة الأمد، مثل تحذير وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن حكومة الاحتلال من أن "تستبدل النصر التكتيكي بهزيمة إستراتيجية".

كما أن الخلاف الأمريكي مع حكومة الاحتلال، في سياق الإجابة الثانية، لا يتعلق بصلب الحرب على غزة وتحديدًا العملية البرية فيها، فهي ترى الحرب حربها كما أسفلنا، ولا تريد أن تسمح بانتصار المقاومة و/أو انكسار الاحتلال لما لذلك من تداعيات محتملة محليًا وإقليميًا ودوليا. الخلاف يرتبط إذن ببعض تفاصيل الحرب لا الحرب نفسها، وتحديدًا بنقطتين؛ شكل الحرب وترتيب ما بعدها.

ونقصد بشكل الحرب حجم القوة المستخدمة ووتيرة القصف والنيران وتأثير ذلك على المدنيين، فيما يتعلق بالتعبير الإعلامي عن العملية وشكلها أمام العالم إن لم يكن بالضرورة تغييرًا حقيقيًا في شكلها على الأرض. ولعل ذلك كان في مقدمة ملفات وزير الخارجية الأمريكي في زيارته الأخيرة، والتي تزامنت مع حديث الاحتلال عن "مرحلة ثالثة" بدأت في الحرب.

والمقصود بترتيبات ما بعد الحرب البنية السياسية والأمنية في قطاع غزة بعد انتهاء العمليات العسكرية، حيث تتفق كل من أمريكا و"إسرائيل" على ضرورة تغييب حركة حماس عنها، بينما تختلفان فيمن يفترض أن يحل مكانها، حيث تصر بعض التصريحات الصادرة عن الاحتلال على إعادة احتلال غزة أو أجزاء منها أو الإبقاء على نوع من السيطرة عليها، بينما ترفض الولايات المتحدة -فيما هو معلن- ذلك بِعَدِّه تقويضًا لحل الدولتين، وتدعو لحلول أخرى مثل قوات عربية أو دولية أو -وهذا المفضل لها- عودة السلطة الفلسطينية "المعدّلة".

ومن المهم الإشارة إلى أن مرد هذا الخلاف الأمريكي مع دولة الاحتلال هو السعي للتنصل من بعض تبعات العملية البرية "الإسرائيلية". فمثلما لم يكن تغير الموقف الأمريكي الرسمي المعلن من الحديث "عما بعد حماس" لـ"ما بعد الحرب" وتغييب فكرة تهجير سكان غزة من التصريحات الرسمية؛ نابعًا من قراءة الميدان من حيث فشل العملية البرية في تحقيق أهدافها وصمود المقاومة والشعب، فالخلاف كذلك ليس نابعًا من موقف أخلاقي أو إنساني أو سياسي مبدئي. إن منطلق واشنطن هو محاولة التنصل من أي مسؤولية عن تبعات العملية البرية وما يتخللها من جرائم حرب، من حيث الرأي العام الأمريكي وتبعات ذلك في الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة، وكذلك في سياق القضية المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية، فضلًا عن صورة الولايات المتحدة ومصالحها عالميًا.

كما أنه لا ينبغي تجاهل إمكانية أن تكون التسريبات الأمريكية المتكررة بخصوص الخلافات أو التوتر مع حكومة الاحتلال مقصودة بحد ذاتها ومبالغًا بها، لكسب الوقت وتخفيف الضغوط عن الولايات المتحدة وتحقيق هدف التنصل من التبعات، بينما تكون حكومة الاحتلال تكسب وقتًا لصالح العملية البرية على المدى البعيد، كما تتاح الفرصة للاحتلال لتحقيق أهدافه باجتثاث المقاومة في ظل اتكاء مختلف الأطراف على فرضية أن الحرب قصيرة ووشيكة الانتهاء بفضل الضغط الأمريكي.

وفي الخلاصة، ثمة خلاف حقيقي بين الإدارة الأمريكية وحكومة الاحتلال، لكن على هامش الحرب وليس في صلبها. ولذلك، فمن غير المتوقع أن يكون لها تأثير مباشر لإنهائها مباشرة أو في وقت قريب جدًا، أي أن تأثيرها أقل بكثير من المتوقع والمتداول بالنظر للكم الهائل من الأخبار المسربة والتحليلات المبنية عليها.

لكن هذا لا يعني أنها بلا تأثير بالمطلق ولا أنها غير قادرة على تقصير أمد الحرب، بل يمكن أن يحصل ذلك في أي وقت تحت تأثير مخرجات الميدان. ذلك أن الولايات المتحدة تملك القدرة على الضغط الحقيقي على الاحتلال لوقف الحرب لكنها لم تلجأ له حتى اللحظة، ولن تفعل ذلك إلا إن اختلت المعادلات الميدانية بشكل دراماتيكي، في غزة أو الجبهات الأخرى المفتوحة، وهذا أمر محتمل ومتوقع في المرحلة القادمة.