أ. د. محسن محمد صالح

مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات

 

بعد نحو 48 يومًا من العدوان الوحشي والمجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين في غزة، نجحت حركة المقاومة الإسلامية حماس في فرض إرادتها وأرغمت الحكومة الإسرائيلية مكرهةً على التراجع عن سقفها المعلن تجاه الأسرى والاستجابة لشروط حماس لعقد هدنة مؤقتة.

 

الهدنة المؤقتة وصفقة التبادل

جرى التوصل إلى الاتفاق بعد مفاوضات صعبة ومعقدة، وذلك بعد أيام طويلة من المناورات والشد والجذب.

وقد حاول الاحتلال الإسرائيلي أن يفرض شروطه بكل ما يملك من خبرة واحتراف في إدارة المفاوضات، خصوصًا مع الدعم الدولي الغربي، وأن يستخدم ما يظن أنه وضع لوجستي قوي بسبب تغلغله في أجزاء من شمال القطاع وحجم الدمار الهائل والمجازر الفظيعة التي ارتكبها، غير أن المقاومة أدارت المفاوضات بثقة وكفاءة وهدوء، وأعطت الاحتلال الإسرائيلي رسالة حازمة أنها لن تستجيب للضغوط، وأنها ليست مأزومة، وأن الأزمة في أساسها هي أزمة الإسرائيليين نفسها، وأنها لن تقبل إلا بالثمن الذي تطلبه.

جاءت الصفقة بعد جهود قطرية ومصرية حثيثة، وبضمانات تنفيذ أمريكية، وتضمنت الاتفاق على هدنة إنسانية مؤقتة لمدة أربعة أيام، يحدث خلالها وقف إطلاق نار بين الطرفين في كل مناطق القطاع، وتقف حركة طيران الاحتلال في جنوب القطاع بشكل كامل، فيما تتوقف حركة الطيران لمدة ست ساعات يوميًا في شمال القطاع.

ويلتزم الاحتلال خلال الهدنة عدم اعتقال أحد في قطاع غزة، كما يسمح بإدخال مئات الشاحنات الخاصة بالمساعدات الإنسانية والإغاثية والطبية والوقود، كما يجري خلال الهدنة إطلاق سراح 50 من النساء والأطفال المحتجزين لدى المقاومة دون سن 19 عامًا، مقابل إطلاق سراح 150 من النساء والأطفال الفلسطينيين الأسرى في سجون الاحتلال دون سن 19 عامًا.

 

أبرز الدلالات

أعطى هذا الاتفاق مؤشرًا قويًا على صلابة المقاومة وقدرتها العالية على القيادة والسيطرة والتحكم، رغم كل ما لحق بالقطاع من مجازر ودمار، وعلى نجاحها في إدارة مفاوضات صعبة في أجواء حرب شرسة تشارك فيها قوى عالمية كبرى.

وجاءت الوساطة القطرية والمصرية عنصرًا مُيسِّرًا ومُسهِّلًا إلى جانب الوزن النوعي الكفء والفعال للمقاومة.

من ناحية ثانية نجحت المقاومة من خلال الاتفاق في كسر الإرادة السياسية الإسرائيلية، التي أعلنت في البداية أنها ستستخدم القوة العسكرية لتحرير أسراها.

وكان من الواضح فشل الاحتلال في تحقيق إنجاز عسكري، وخسائره الكبيرة كانت سببًا في قبول الهدنة، وقد ترافق هذا الفشل مع فشل جيش الاحتلال بعد 48 يومًا من عدوانه الوحشي في أسر مقاوم واحد، كما فشل في العثور على أي أسير حي من المدنيين أو العسكريين.

وقد تعرض نتنياهو لضغوط كبيرة متزايدة من عائلات الأسرى الصهاينة، فضلًا عن انتقادات كبيرة من شخصيات ورموز كبيرة في المجتمع الصهيوني، بمن فيهم رؤساء وزراء سابقون وقيادات عسكرية وأمنية، بالإضافة إلى الضغط الأمريكي للوصول إلى هدنة وصفقة بشأن الأسرى المدنيين، وهو ما اضطر نتنياهو وفريقه الأكثر تطرفًا في الكيان إلى النزول عن الشجرة وإمضاء الهدنة.

ومن ناحية ثالثة فإنّ هذا الإنجاز لم يكن ليتحقق لولا صمود الحاضنة الشعبية الأسطوري في قطاع غزة، وكسرها لمحاولات التطويع والتركيع، وإفشالها لمؤامرة التهجير، والتفافها حول المقاومة. هذه الحاضنة هي “كلمة السر” في نجاح المقاومة، فهي التي صنعت رجال المقاومة وربَّتهم، وضحَّت بفلذات أكبادها وأموالها وممتلكاتها في سبيل الله، ودفاعًا عن الأرض والمقدسات، وتحقيقًا لمشروع التحرير والعودة.

ولذلك فقد كان من الطبيعي، من ناحية رابعة، أن توافق المقاومة على هذه الهدنة لتوفير متطلبات الإغاثة والاحتياجات الغذائية والطبية لأبناء قطاع غزة، تخفيفًا من معاناتهم وتضميدًا لجراحاتهم وتعزيزًا لصمودهم، كما أنه سيعين المقاومة على متابعة أدائها بمزيد من الكفاءة والاقتدار بعد انتهاء الهدنة.

من ناحية خامسة فإن المقاومة ستأخذ فرصة لالتقاط الأنفاس، وتنظيم صفوفها، وضبط طرق التواصل والاتصال بين القيادة والأعمال الميدانية، كما ستعطي الفرصة لإعادة تموضع قوات المقاومة وإعادة انتشارها وإعادة تحديث المعلومات حول تموضع قوات العدو، وتجهيز ما يتناسب مع مقاومته.

وستكون ثمة فرصة مهمة، من ناحية سادسة، لتفعيل دور البلديات والدفاع المدني والكادر الطبي لتقديم الخدمات العاجلة لأبناء غزة، ويقع على رأس تلك الأدوار انتشال جثث الشهداء من تحت الأنقاض ودفنها، خصوصًا مع وجود تقارير حول نحو 7 آلاف مفقود، أكثر نصفهم من الأطفال والنساء، وهؤلاء الشهداء لم يُعطِ العدوان الوحشي الهمجي الإسرائيلي المستمر الفرصة لإخراجهم.

ومن ناحية سابعة فإن الجانب الإسرائيلي سيحاول من خلال الهدنة تحسين صورته الخارجية، وتحقيق إنجاز ولو جزئي متعلق بتحرير عدد من الأسرى المدنيين لتخفيف الضغوط الداخلية عليه، وقد يسعى لأن يجنّد كل إمكاناته الاستخبارية خلال الهدنة للحصول على معلومات حول قيادات المقاومة السياسية والعسكرية، بهدف تحقيق صورة انتصار باغتيال أيٍّ منها، كما سيتابع جهوده الحثيثة لمعرفة أماكن احتجاز الأسرى.

 

 

المقاومة فرضت إرادتها

وبشكل عام فإن الهدنة عكست فرض المقاومة لإرادتها، وأعطت رسالة قوية على كفاءتها وفاعليتها بعد عملية طوفان الأقصى التي بدأتها في 7 أكتوبر الماضي، وهو ما يُرسِل رسالة للصهاينة وللأمريكيين وحلفائهم بالصعوبة البالغة، إن لم يكن استحالة السيطرة على قطاع غزة أو سحق حماس.

وعكست الهدنة أيضًا ضرورة مراجعة أهداف الحملة “المجنونة” المسعورة التي يقوم بها الاحتلال، والتي لم تؤدِّ إلَّا إلى مزيد من الالتفاف الجماهيري حول حماس وخط المقاومة، وإلى صَبِّ مزيد من الوقود للثورة في وجه الاحتلال، وإلى مزيد من كشف الوجه البشع للاحتلال، بما يُفسِد عليه مشاريع التطبيع في المنطقة، ويزيد عُزلته الدولية، كما يزيد الضغوط باتجاه الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني في الحرية والتحرير والعودة والاستقلال.