د. محمد علي الصلابي:
في معركة اليرموك، قال رجل من نصارى العرب لسيف الله خالد بن الوليد (رضي الله عنه): ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فقال خالد: ويلك، أتخوّفني بالروم؟ إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقلّ بالخذلان، لا بعدد الرجال؛ والله لوددت أن الأشقر (فرسه) براء من توجّيه (التوجّى: رقة القدم أو الحافر أو الخف من كثرة المشي) وأنهم أضعفوا العدد.. وكان فرسه قد حَفي، واشتكى في مجيئه من العراق. ولذلك قال عمرو بن العاص: (أبشروا أيها الناس! فقد حُصِرت والله الروم! وقلما جاء محصور بخير). (العمليات التعرضية والدفاعية، ص163)
هذا الجهد متصل بهذا الواجب الإنساني والأخلاقي والديني في دعم المستضعفين بالكلمة والمقال، وتذكير أبناء الأمة الإسلامية بذاكرتها التاريخية، وشهودها الحضاري، وملحمتها الخالدة؛ لنربط الماضي بالحاضر، ونعبر به نحو المستقبل المشرق، مستلهمين سنن الله الغلّابة في بناء الحضارات، وانهيار وقيام الدول وزوالها، وطبيعة حركات المقاومة؛ وهذه سلسلة تبيّن أنه ما بعد الاحتلال إلا الرحيل.
كانت بلاد الشام تحت هيمنة الدولة الرومانية البيزنطية، وحدثت المواجهة الحضارية الشاملة، بين المشروع الإسلامي الحضاري وبين قبضة الدولة الرومانية على تلك الشعوب؛ وكانت المعركة الفاصلة ومفتاح تحرير بيت المقدس أمّ المعارك في تلك الفترة (اليرموك). حشد كل فريق ما يمكن جمعه من عوامل النصر العقدية والفكرية، والروحية والأخلاقية، والعسكرية والسياسية والتنظيمية والاقتصادية. وكانت موازين القيم الروحية والأخلاقيّة لصالح جيوش المسلمين، وكانت دولتهم في تلك الفترة وقيادتهم الرّشيدة تمثل:
– دولة الشورى.
– دولة العدل.
– دولة حقوق الإنسان.
– دولة المساواة.
– دولة الإيمان.
– دولة الرسالة الربّانية الخاتمة التي جاءت لسعادة الإنسان.
فخاض المسلمون معارك كثيرة في بلاد الشام، من أهمها معركة اليرموك، التي كانت نتائجها لصالح الإنسان في بلاد الشام، وقد قادها خالد بن الوليد (رضي الله عنه) وبصحبته أركان حربه الميامين:
– أبو عبيدة بن الجراح (رضي الله عنه).
– وعمرو بن العاص (رضي الله عنه).
– ويزيد بن أبي سفيان (رضي الله عنه).
– وسعيد بن زيد (رضي الله عنه).
وغيرهم من الصحابة الكرام، كأمثال معاذ بن جبل وأبي هريرة (رضي الله عنهم)، فكان لهم دور كبير في التعبئة الإيمانية، ومن أشهر الأدعية في تلك المعركة دعاء معاذ بن جبل “اللهم زلزل أقدامهم وأرعِب قلوبهم، وأنزل السكينة وألزمنا كلمة التقوى، وحبِّب إلينا اللقاء وأرضِنا بالقضاء” (أبو بكر رجل الدولة ص88). وأما سنة الأخذ بالأسباب المعنويّة والماديّة فقد بلغ التعامل معها منتهاها:
– على مستوى جمع المعلومات.
– وتوفير السلاح واحتياجات الجنود والعمل الفدائي.
– والتنسيق البديع بين الفرق والكتائب والميمنة والميسرة، وقلب الجيش والمؤخرة والمقدمة، والترتيبات الإدارية التي قادتها دولة الصديق على كل المستويات، وحتى على مستوى المؤسسة القاضية التي كان يقودها أبو الدرداء، وأسند الأمور إلى أهلها وكلٌ في محِلّه.
وكان من أبرز الأعمال الفدائية في تلك المعركة ما قام به عكرمة بن أبي جهل (رضي الله عنه)، قال: قاتلت رسول الله (ﷺ) في مواطن، وأفِرُّ منكم اليوم؟ ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه عمّه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدّام مركز القيادة التي كان فيها خالد بن الوليد، حتى أُثبِتوا فيها جميعا جراحا، وقُتل منهم خلق منهم ضرار بن الأزور (رضي الله عنه). وقد ذكرت كتب التاريخ أنهم صُرِعوا من الجراح، واستسقوا ماء فجيء إليهم بشربة ماء، فلمّا قُرِّبت إلى أحدهم نظر إليه الآخر، فقال: ادفعها إليه، فلما دُفعت إليه نظر إلى الآخر، فقال: ادفعها إليه، فلما دفعها إليه نظر إلى الآخر، فتدافعوا كلهم من واحد إلى واحد حتى ماتوا جميعا، ولم يشربها أحد منهم (رضي الله عنهم أجمعين). (فتوح الشام، الأزدي، ص222)
وكان أول من قُتل من المسلمين يومئذ – شهيدا- رجلا جاء إلى أبي عبيدة فقال: إني قد تهيأت أمري فهل لك حاجة إلى رسول الله؟ قال: نعم تُقرئه عني السلام وتقول له: يا رسول الله، إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فتقدم هذا الرجل حتى قُتل رحمه الله.
وثبت كل قوم على رأيهم حتى صارت الروم تدور كأنها الرحا، فلم ترَ يوم اليرموك إلا مخّا ساقطا، ومعصما نادرا، وكفّا طائرا في ذلك الموطن، كانت التضحيات عظيمة في تلك المعركة الخالدة، والتي ساهمت نتائجها في خلاص الإنسان من الاستبداد والظّلم والجور والاحتلال الروماني. (البداية والنِّهاية، 7/12)
قال سعيد بن المسيب عن أبيه، قال: هدأت الأصوات يوم اليرموك فسمعنا صوتا يكاد يملأ المعسكر يقول: يا نصر الله اقترب! الثبات، الثبات، يا معشر المسلمين! قال: فنظرنا فإذا هو أبو سفيان تحت راية ابنه يزيد (ترتيب وتهذيب البداية والنهاية، ص173) وأخَّر الناس صلاتي العشاء حتى استقر الفتح، وأكمل خالد ليلته في خيمة تذارف أخي هرقل – وهو أمير الروم كلهم يومئذ- وهرب فيمن هرب، وباتت الخيول تجول حول خيمة خالد يقتلون من مر بها من الروم حتى أصبحوا، وقُتل تذارف، وكان له ثلاثون سرادقا، وثلاثون رواقا من ديباج بما فيها من الفرش والحرير، فلما كان الصباح حازوا ما كان هنالك من الغنائم (ترتيب وتهذيب البداية والنهاية، ص173) وكان عدد شهداء المسلمين ثلاثة آلاف بينهم من صحابة النبي (ﷺ) وشيوخ المسلمين، وأقطابهم؛ وممن استشهد من هؤلاء عكرمة بن أبي جهل، وابنه عمرو، وسلمة بن هشام، وعمرو بن سعيد، وأبان بن سعيد، وغيرهم (ترتيب وتهذيب البداية والنِّهاية، ص174)، وكان عدد قتلى الروم مئة وعشرين ألفا، منهم ثمانون ألفا مقيَّدون بالسلاسل، وأربعون ألفا مطلقون سقطوا جميعهم في الوادي.
لم يكن الثمن بسيطا، بل كانت جماجمهم ودماؤهم وأشلاؤهم قد بُذلت في سبيل الله عزّ وجلّ، ولم يعكّر فرح المسلمين بهذا النصر العظيم، إلا وصول خبر وفاة الصديق حيث حزنوا عليه حزنا شديدا، وعوض الله الأمة بالفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنهم جميعا)، فسار على نهج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبي بكر الصديق فحافظ على:
– هيبة الدولة في نفوس الأمم الأخرى.
– وواصل الجهاد الذي أمر به رسول الله.
– وحرص على إقامة العدل بين الأمم المفتوحة والرفق بها.
– ورفع سطوة الإكراه على الناس في بلاد الشام، وانهزم الروم وحلفاؤهم، وحان تحرير بيت المقدس.
لقد فرح المسلمون بهذا النصر العظيم، وعكَّر ذلك الفرح وصول خبر وفاة الصدِّيق كما قلنا. (البداية والنهاية، 7/14)
وقد كان البريد قد قدم بموت الصديق والمسلمون مصاف الروم، فكتم خالد ذلك عن المسلمين لئلا يقع في صفوفهم وهن أو ضعف، فلما تم النصر وأصبحوا، أجلى لهم الأمر؛ وكان الفاروق قد عيَّن أبا عبيدة بن الجراح بدلا من خالد بن الوليد على جيوش الشام، وتقبل خالد أمر الفاروق برحابة صدر، وعزَّى المسلمين في خليفة رسول الله، وقال لهم: الحمد لله الذي قضى على أبي بكر بالموت، وكان أحب إلي من عمر، والحمد لله الذي ولَّى عمر، وكان أبغض إلي من أبي بكر، وألزمني حبَّه. (البداية والنهاية، 7/14)
وتولى أبو عبيدة القيادة العامة لجيوش الشام.
ومما قيل من الشعر في يوم اليرموك قول القعقاع بن عمرو:
ألـمْ تـرَنا على الـيـرموك فُزنـا كـمـا فـــزنـا بـأيــام الــعــراق
وعـذراء الـمدائـن قـد فـتـحْـنـا ومرج الـصفر بالجُـرْد العِـتَاق
فـتحـنا قبـلها بـصـرى وكانـت محـرَّمة الـجناب لـدى الـنُّعَاق
قـتـلـنا مـن أقـام لــنــا وَفِــيْـنـا نـهـابـهــم بـأســــيــاف رقــاق
قـتلنا الـروم حتـى مـا تسـاوى على اليرموك معروق الوراق
فضضنا جَمْعهم لما استجـالوا عـلى الواقوص بالـبَتْر الـرقاق
غـداة تهافـتوا فـيها فـصـاروا إلى أمــر يُـعَــضّـِل بـالـذَّواق
(البداية والنهاية،7/14).
وقد أصاب هرقل همٌّ، وحزن لما أصاب جيشه في اليرموك، ولما قدمت على أنطاكية فلول جيشه؛ قال هرقل: ويلكم أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم، أليسوا بشرا مثلكم؟ قالوا: بلى! قال: فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافا في كل موطن. قال: فما بالكم تنهزمون؟! فقال شيخ من عظمائهم: من أجل أنهم يقومون الليل، ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم؛ ومن أجل أنَّا نشرب الخمر، ونزني، ونركب الحرام، وننقض العهد، ونغصب، ونظلم، ونأمر بالسخط، وننهى عما يرضى الله، ونفسد في الأرض. فقال: أنت صدقتني. (البداية والنهاية، 7/ 61)
إن المتأمل في حركة الفتح الإسلامي، يرى توفيق الله تعالى لجيوش الخليفة أبي بكر (رضي الله عنه)، فقد اندفعت تلك الجيوش المظفَّرة نحو العراق والشام واستطاعت أن تكسر شوكة الرومان والفرس، وتفتح تلك الديار في وقت قياسي في تاريخ الحروب. والسبب في سرعة هذا الفتح عوامل تتعلق بالمسلمين الفاتحين، وأُخرى ترجع إلى الأمم التي فتح المسلمون ديارهم. فمن العوامل التي تتعلق بالمسلمين:
– إيمان المسلمين بالحق الذين يقاتلون من أجله.
– يقين المسلمين بربّهم في قضايا الرزق، والأجل، والقضاء والقدر.
– تأصيل الصفات الحربية في المسلمين.
– سماحة المسلمين وعدالتهم مع الشعوب.
– رحمة المسلمين في تقدير الجزية والخراج، ووفاؤهم بعهودهم.
– ثروة المسلمين الواسعة من الرجال والقادة العظام.
– إحكام الخطة الحربية الإسلامية.
– التعامل الحكيم مع سنن الله في الأفراد والشعوب والأمم والدول؛ كسنّة تغير النفوس، وسنة التدرّج، وسنة الابتلاء، وسنة التدافع، وسنة التمكين، وغيرها من السّنن.
وأما الرومان، فقد ضعفوا، وانتشر بينهم الظلم وعم الفساد، ودبّ فيهم الخلاف وسوء الأخلاق، والفسق والفجور والإجرام؛ وعوامل زوال الدول توفرت وتحكمت في ممالكهم في بلاد الشام ومصر وشمال إفريقيا، وأصابت حضارتهم الشيخوخة، ومضت فيهم سنّة الله التي لا تتبدل ولا تتغير، ولا تجامل.
وكان من نتائج تلك المعركة الخالدة:
– الانسياح في فتح مدن بلاد الشام صلحا وعنوة.
– تمّ فتح القدس وإعادة الدور الحضاري والروحي والديني للمسجد الأقصى على يدي عمر بن الخطاب (رضي الله عنه).
لا بد لهذه الأجيال أن تتعرف على تاريخها وحضارتها ودينها وعقيدتها وثقافتها، فالتدافع بيننا وبين الآخرين على أشده على المستوى الحضاري، والثقافي والفكري والعقائدي؛ والقيمي والسياسي والاقتصادي …إلخ. وترتيب الجبهة الداخلية والتحالفات الإقليمية والدولية، لابد أن يستند لمقاصد الإسلام الكبرى التي جاءت في كتاب الله تعالى العزيز، وسنّة نبينا المصطفى (ﷺ).
………….
نقلا عن “مدونة العرب”