قطب العربي

استضافت العاصمة الألمانية برلين (10-12سبتمبر/أيلول) المؤتمر الدولي للسلام في نسخته السابعة والثلاثين تحت عنوان “جرأة صنع السلام”، الذي تنظمه سنويًّا في إحدى الدول منظمة سانت إيغيديو، وحضر هذه الدورة قادة دينيون وساسة ومثقفون وحقوقيون من مختلف الدول والديانات.

ساقتني الأقدار للمشاركة في بعض فعاليات المؤتمر وجلسته الافتتاحية التي تحدّث فيها الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير وشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، ورئيس غينيا بيساو عمر المختار سيسوكو على الترتيب.

علمي المسبق بحضور شيخ الأزهر هو الذي شجعني على حضور المؤتمر، ولحسن الحظ فقد قابلته وصافحته أثناء دخولنا قاعة المؤتمر، لكن الزحام والإجراءات الأمنية حالت دون المزيد من الحديث معه.

أعرف أن الشيخ من فرسان الحوار بين الأديان، ومع قادة الديانات الأخرى، فهو يمتلك ثقافة إسلامية راسخة، وإضافة إلى ذلك يتمتع بثقافة غربية من خلال دراسته الدكتوراه في جامعة السوربون، واطلاعه على الفلسفات الغربية واحتكاكه المتواصل مع الفلاسفة والقادة الدينيين في العالم. وكما كنت أتوقع، فقد جاءت كلمته في افتتاح المؤتمر قوية مركزة، محملة بالرسائل المباشرة وغير المباشرة الموجهة إلى الغرب ومن عقر داره.

 

أهداف معلنة وأخرى خفية

وقبل التعرض للرسائل، يجدر التنويه إلى أن الكثير من مؤتمرات ومنتديات حوارات السلام والأديان تحمل أهدافًا معلنة وأخرى خفية، وتكون هذه الأخيرة هي الأساس والمبتغى، وقليلون من يدركون هذه الأهداف، وأثق بأن شيخ الأزهر واحد منهم بحكم خبرته كما ذكرت سلفًا، ولكنه يحرص على حضور هذه المنتديات لإيصال رسائله أيضًا سواء أعجبت البعض أو حتى أغضبته، فهو يقف على رأس أكبر مؤسسة إسلامية في العالم، والغرب يدرك ذلك، ولذا كان ترتيب كلمته (الثانية مباشرة) بعد كلمة رئيس ألمانيا المضيفة للمؤتمر.

كانت الرسالة الأولى لشيخ الأزهر نقدًا للحضارة الغربية ذاتها، التي ركزت فقط على التقدم العلمي والمادي ولكنها أغفلت التقدم الإنساني والأخلاقي، مستدعيًا مقولة فولتير التي يكذبها الواقع (بقدر سرعة نمو الحضارة سنشهد تراجعًا للحروب) حيث لا تزال الحروب مشتعلة، متنقلة من مكان إلى آخر، كما أن البؤس لم يتراجع، والعبودية لم تُلغ إلا من القوانين بينما تستمر بأشكال مختلفة، وحيث يسيطر 1% من سكان العالم على غالبية ثرواته، مستحضرًا الحديث الشريف (ما جاع فقير إلا بما متع به غني).

وألمح الطيب إلى دور الغرب في صنع الإرهاب، منتقدًا التدخل الأجنبي في شؤون بعض الدول خصوصًا العربية لتحويلها إلى سوق رائجة لتجارة السلاح، وما يستلزمه ذلك من إثارة الفتن وبعث النزاعات العرقية والطائفية.

 

حرق المصحف والكنائس

الرسالة الثانية لشيخ الأزهر عن حرق المصحف في الغرب، قائلًا “كنا نظن أن هذه حوادث فردية لبعض المتطرفين لكننا فوجئنا بدعم حكومات لها، وهو ما يُمثل تحديًا لمشاعر ملياري مسلم، في الوقت الذي رفض فيه الأزهر وغيره من المؤسسات الإسلامية حرق الكنائس في باكستان، واعتباره جريمة مثل جريمة حرق المصحف”.

الرسالة الثالثة وكانت تلميحًا إلى المثلية، بالحديث عن العدوان على الأسرة وقيمها التي حفظتها الأديان من لدن آدم عليه السلام، ومحاولة فرض أنماط شاذة تدمر الجنس البشري لو سمحنا باستمرارها.

الرسالة الرابعة كانت انتقادًا لحرمان المرأة الأفغانية من حق التعلم والعمل في الأعمال التي تناسبها، مؤكدًا أن الإسلام منح المرأة هذه الحقوق قبل 1500 عام (استضاف المؤتمر أيضًا الشابة الأفغانية زهرة سرابي التي تمكنت من الهرب بمساعدة منظمة سانت إيغيديو بعد وصول طالبان إلى الحكم للحديث عن أوضاع المرأة الأفغانية ومآسي المهجّرين، دون الإشارة إلى معاناة الشعب الأفغاني بسبب الحصار الغربي).

 

الحقوق الفلسطينية

والرسالة الخامسة عن حرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة وصمت العالم على ذلك، وقد استخدم الطيب قواعد المنطق التي تقول إنه لا سلام للكل إذا حُرم منه الجزء، وبالتالي فلا سلام لأوروبا إذا حُرم الشرق الأوسط وخاصة فلسطين من ذلك، ولا سلام لآسيا إذا حُرمت منه إفريقيا، ولا سلام لأمريكا الشمالية إذا حُرمت منه أمريكا الجنوبية.

رسائل شيخ الأزهر كانت شاملة لأهم ما يشغل المسلمين الذين يمثلهم، بينما حاول الرئيس الألماني في كلمته تجيير المؤتمر وحضوره الضخم من القيادات الدينية العالمية خاصة قادة الكنائس الغربية للضغط على روسيا لوقف الحرب على أوكرانيا، متجاهلًا -على طريقة بقية حكام الغرب- المظالم والحروب التي تعانيها شعوب أخرى خاصة في منطقتنا، مثل فلسطين والسودان واليمن وسوريا إلخ (شارك في افتتاح المؤتمر واختتامه أيضًا فرقتا موسيقى أوكرانيتان تأكيدًا لمحورية القضية الأوكرانية في المؤتمر).

 

أمام سور برلين

لا تترك ألمانيا فرصة للتذكير بتاريخها وتضحياتها في الحرب الباردة، التي تسببت في انشطارها إلى دولتين (ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية، كما انشطرت عاصمتها التاريخية برلين إلى قسمين يفصلهما جدار برلين الذي تم بناؤه عام 1961)، حيث حرصت على عقد المؤتمر في قاعة تطل مباشرة على ذلك الجدار وتُذكّر الحاضرين به، كما حرصت على تنظيم تظاهرة دينية للمشاركين في المؤتمر أمام بوابة برلين التاريخية (بوابة براندنبورغ) التي كانت تمثل نقطة العبور الشرعية الوحيدة بين الألمانيتين عند الضرورة القصوى.

لم يكن جدار برلين محض حاجز بين قسمَي المدينة أو الدولة الألمانية، بل كان حاجزًا بين عالمَين مختلفين تمامًا، معسكر شرقي شيوعي بمظلته العسكرية (حلف وارسو) مقابل عالم غربي رأسمالي بمظلته العسكرية (حلف شمال الأطلسي)، وقد استمرت الحرب الباردة بينهما حتى أواخر الثمانينيات، وكان هدم جدار برلين بدءًا من العام 1989 إعلانًا بنهاية تلك الحقبة.