موقف مهيب، وعلى صعيد عرفات، وقف النبي (صلى الله عليه وسلم) ليلقي في المسلمين أهم وأعظم خطبة شاملة جامعة مانعة، وهي الخطبة التي أنصت لها التاريخ، وتناقلتها الأجيال، ومنح فيها النبي المسلمين وصاياه الأخيرة ليتم أمانته، وقد أوشك على الالتحاق بالرفيق الأعلى.

وأعلن الرسول (صلى الله عليه وسلم) في هذه الخطبة الأسس والمبادئ العامة لبناء الدولة الإسلامية، والميثاق الذي سبق المواثيق العالمية التي يفتخر بها الغرب في هذا الزمن بمئات السنين، حيث أعلن أول وثيقة لحقوق الإنسان في العالمين.

واشتملت الخطبة على جوامع الكلم وأصول الأحكام في السياسة والاقتصاد والأسرة والأخلاق والعلاقات العامة والنظام الاجتماعي.

 

أولاً - ظروف الخطبة ومناسبتها

الظرف الزماني: ألقيت الخطبة في التاسع من ذي الحجة في السنة العاشرة للهجرة، وهو اليوم الذي يسمى (يوم عرفة) ويستحب صيامه لغير الحاج.

الظرف المكاني: ألقيت الخطبة في صعيد عرفات فوق هضبة صغيرة تدعى: جبل الرحمة، ويَبعُد عن مكة حوالي 20 كلم، وتُقام عنده أَهم مناسك الحج.

مناسبة الخطبة: هي حجة النبي ﷺ بالمسلمين في السنة 10 من الهجرة بعد فتح مكة في 20 رمضان السنة 8 للهجرة، وقد توفي بعد هذه الحجة بثلاثة أشهر تقريبًا، فكانت أول وآخر حجة للنبي ﷺ، ولهذا سميت بخطبة حجة الوداع.

 

ثانيًا - أهم الحقوق التي تضمنتها الخطبة

حق الحياة: نصت الخطبة على حرمة الدماء وأبطلت عادة الثأر، فالأصل في الأنفس العصمة، ويحرم الاعتداء عليها بغير حق كالانتحار والإجهاض.

حق الأمن: ويشمل الأمن على النفس والمال والعرض، والأمن الفردي والجماعي (فلا تَرْجِعُنّ بَعْدِي كُفاراً يَضرِبُ بَعْضُكُمْ رقابَ بَعْض) فالكل متساوٍ في حق الأمن بلا تمييز، وفقًا لـ"الجزيرة".

الحقوق الزوجية: فالعلاقة الزوجية مبنية على الشراكة والمعاشرة بالمعروف والتكافل الأسري والمودة والرحمة.

الحق في المساواة والعدالة: فلا يجوز التفريق بين الناس وظلمهم بسبب اختلاف الجنس أو العرق أو اللون أو الدين، سواء في الحقوق والواجبات المدنية والشرعية أو في التقاضي.

 

ثالثًا - القيم الحضارية للخطبة

القيمة التاريخية: فالخطبة أشارت حقوق الإنسان قبل 14 قرنًا، من وضع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948م.

القيمة التشريعية: بينت الخطبة المصادر الأصلية للتشريع الإسلامي (القرآن والسنة) وفصلت أصول الحلال والحرام في المعاملات والعبادات والعقائد.

القيمة الإنسانية: لقد أرست الخطبة حقوق الإنسان والمرأة وأكدت وحدة الجنس البشري والكرامة الإنسانية من خلال تحريم الدماء والأعراض.

القيم القيادية: فقد جسد النبي ﷺ شخصية القائد الملهِم والقدوة، الذي يبدأ بإصلاح نفسه وأسرته وحاشيته أولا قبل إلزام رعيته، فعندما تحدث عن إبطال دماء الجاهلية (الثأر) بدأ بدماء بني عمومته فقال: "وإنَّ أَوَّلَ دِمائِكم أَضَعُ دَمَ ابنِ ربيعةَ بنِ الحارث بنِ عبد المطلب، وكان مُسْتَرْضَعًا في بني لَيْثِ فقتلته هذيل…" ولما تحدث عن إبطال الربا قال: "وإنّ أَوّلَ رباً أَبْدأُ بِهِ رِبَا عَمّي العباسُ بن عبد المطلب". وكذلك يكون ولاة العدل.

القيم الاقتصادية: نصت الخطبة على تحريم الربا كأبرز علل فساد العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، وحرمت كل صور غصب المال وأخذه بغير طيب نفس، ويشمل ذلك كل صور الغش والتدليس والاحتكار…الخ.