بقلم الشيخ د. رامي بن محمد الدالي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد،
فإن معرفة مقاصد العبادات ومقاصد مواسمها من أهم ما يعين على أداء العبادة على أكمل وجه ويرسخ القدم فيها وفي معرفة أحكامها وأسرارها، وإن من أعظم مواسم العبادة هي هذه العشر المقبلة من ذي الحجة، فأحببت أن أجتهد في بيان بعض مقاصدها لتركيز الجهد وتحصيل أعظم الأجور والمنافع فيها..

وهي باختصار كالتالي:
 

أولا: إن من أهم مقاصد رمضان تحقق التقوى وما يحتاجه ذلك من حصول المغفرة والتطهر والتجرد فمن قامه وصامه غفر له ما تقدم من ذنبه ومن أهم مقاصد عشر ذي الحجة العتق من النار فإنه صلى الله عليه وسلم قال: “ما مِن يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فيه عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ” (رواه مسلم)
فكأن رمضان مقدمة بين يدي العشر ووسيلة إليها والعيد الصغير مقدمة بين يدي العيد الكبير ليتحقق العتق على أكمل وجه وهذا يشير إلى أفضلية العشر على رمضان كما ذهب إليه جمع من العلماء باستثناء ليلة القدر التي لها مزيتها الخاصة وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على أفضلية العشر مطلقا فقال: “أفضل أيام الدنيا العشر” قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: “ولا مثلهن في سبيل الله، إلا رجل عفر وجهه بالتراب”. (رواه البزار وغيره وصححه الألباني) وقال: “ما العَمَلُ في أيَّامٍ أفْضَلَ منها في هذه، قالوا: ولا الجِهادُ؟ قالَ: ولا الجِهادُ، إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخاطِرُ بنَفْسِه ومالِه، فلَمْ يَرْجِعْ بشَيءٍ.” (رواه البخاري في صحيحه).
 

ثانيا: إذا فهمت المقاصد السابقة وأن رمضان كالمقدمة للعشر وهو يتميز بالصيام والقيام تأكد عندنا استحباب قيام ليالي العشر من ذي الحجة وصيام نهارها ما عدا يوم الأضحى، وهذا يجعلنا نتأول باطمئنان حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه مسلم أنها ما رأت النبي صلى الله عليه وسلم صائما في العشر قط على أن ذلك مبلغ علمها لا أنه واقع الأمر أو على أنه صلى الله عليه وسلم لم يفعله خشية أن يفرض على أمته كما ذهب إليه جماهير العلماء ويدل عليه أن الصوم داخل في عموم العمل الصالح المستحب في هذه الأيام والسنة القولية مقدمة على العملية، ويدل عليه أيضا تأكد استحباب صوم يوم عرفة لغير الحاج كمقدمة مباشرة للعتق
 

ثالثا: العمل الصالح في العشر مقدمة وتهيئة لحصول العتق فإن استمرار العمل الصالح لعشرة أيام يرجى أثره في القلب وتمامه يرجى في شهر ويستفاد ذلك من شرع شهر رمضان الذي يحقق التقوى ومن شرع الاعتكاف في عشر منه ومن ميقات موسى عليه السلام حيث ابتدأ بالشهر ولما احتاج إلى تمديد مختصر مد إلى عشر.
 

رابعا: إن أعظم عبادة ثابتة تؤدى في العشر ويتحقق بها مقصدها هي الحج ومقصد الحج الأعظم هو ترسيخ التوحيد والعبودية لله وإعلاء ذكر الله تعالى في النفس وفي الأرض فهو من أعظم شعائر التوحيد ويظهر ذلك في كل منسك من مناسكه وإن من أعظم مظاهر التوحيد التجرد لله تعالى وقطع العوالق والعوائق دونه كما يظهر في الإحرام وسائر المناسك وهذا يتم على أكمل وجه في الحج الذي يترتب عليه كمال العتق من النار في يوم عرفة للحجاج الواقفين عليه بكمال التجرد والتوحيد ولذا كان أفضل ما يقال أثناء الدعاء فيه “لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير” ثم إن أفضل مظاهر التجرد والتوحيد الذي يقدر عليه كل أحد بعد الحج هو الصوم الذي لا يكون إلا لله تعالى فشرع وتأكد استحبابه لغير الحاج في يوم عرفة لكنه احتاج إلى تكميل لنقصه عن الحج فكمل بالأضحية فتأكد استحبابها لغير الحاج لتأكد حاجته إليها ليتم العتق على أكمل وجه لما فيها من معاني التجرد والتعظيم والتوحيد التالية.
ويستفاد من ذلك أن كل عمل تتحقق به العبودية لله تعالى ولو قل مطلوب في العشر ولكن أعظم وسيلة يتقرب بها إلى الله تعالى في هذه الأيام ويحقق مقصودها هي أشبه الوسائل بالحج أي العبادات التي يتم فيها ترسيخ التوحيد في النفس والأرض بالتجرد التام وإعلاء ذكر الله تعالى وكلمته ولوائه ومن أعظمها الجهاد في سبيل الله تعالى ولذلك ذكر في الحديث عديلا للعمل الصالح في هذه العشر كما مر ولذلك أيضا كان الجهاد قرينا للحج في كونهما في سبيل الله كما ذكر العلماء في مصرف الزكاة وغيره وصح عنه صلى الله عليه وسلم أن الحج جهاد النساء وكذلك يستحب كل ما اشتمل على هذا المعنى أو قاربه من الأعمال كالصوم كما مر وما في معناه من التجرد لله تعالى باطنا وظاهرا وكالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله تعالى ومدارسة العلم وتعليمه وإقامة شعيرة الصلاة في المساجد على أتم وجه من لحوق تكبيرة الإحرام وإتمام الصلاة والخشوع ومن كثرة ذكر الله تعالى وإظهاره فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم الحث على ذلك في العشر فقال: “ما مِن أيَّامٍ أَعظَمَ عِندَ اللهِ، ولا أَحَبَّ إلَيهِ مِنَ العملِ فيهِنَّ مِن هذِه الأَيَّامِ العَشرِ؛ فأَكثِرُوا
فيهِنَّ مِنَ التَّهليلِ، والتَّكبيرِ، والتَّحميد”. وتتحقق بصيغة التكبير المعروفة في العيد وقد صح عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما أنهما كانا يجهران بالتكبير في أيام العشر في الأسواق لكثرة الغفلة فيها ويكبر الناس بتكبيرهم ولهذا أيضا لا أرى أفضلية لاعتكافها كلها مع كونه فاضلا لأنه يمنع من كثير من الأعمال المذكورة وغيرها والتي تتحقق فيها مقاصد العشر أكثر منه بخلاف اعتكاف عشر رمضان لأن المقصد منه تحصيل ليلة القدر التي عبادتها الأهم تتمثل بالقيام والاعتكاف.
 

خامسا: ذكرت أن غير الحاج يحتاج إلى تكميل الوسيلة عنده بالتضحية ليكون عتقه من النار على أكمل وجه ويلحق بذلك بالحاج وذلك لأن الأضحية تشتمل على معاني عظيمة جدا من معاني التوحيد والتعظيم والتجرد منها ما يلي:
ا. أنها تذكر بقصة إبراهيم الخليل عليه السلام حين أمر بذبح ابنه البكر لما تعلق قلبه به فيستفاد منها أن الأضحية ترمز إلى ذبح الأنداد التي في قلوبنا من دون الله تعالى لتكون خالصة له وحده لأن هذا هو المقصد الذي أنزلت لأجله الأضحية على خليل الله عليه السلام.
ب. أنها تذكر بعظيم حق الله تعالى علينا فإنه مهما عملنا فإن عملنا لن يدخلنا الجنة إلا أن يتغمدنا الله برحمته وإنا لو ذبحنا أنفسنا وأولادنا وقدمنا أرواحنا وأرواحهم في سبيله لما أديناه حقه سبحانه لأن حقه ونعمه علينا أعظم ولذا أمر الله خليله صلى الله عليه وسلم بذبح ابنه فما اعترض بل سلما تسليما وهذا هو كمال حق التسليم والعبودية الواجب لله تعالى المستجلب لكمال فداء أنفسنا من عذابه وحسابه ولكنه تعالى قبل منا أقل من ذلك بكثير رحمة منه وتفضلا وهو أن نفتدي أنفسنا وأهلينا من النار بذبح من الأنعام بدلا من نفوسنا فيعتق بكل عضو منه عضو منا من النار ولذا اشترطت فيه السلامة من العيوب ولذا ينبغي لمن أراد أن يتم عتقه على أكمل وجه استحضار هذا المعنى والمقصد العظيم.
وإذا علم ذلك فهم السر في النهي عن الأخذ من الشعر وغيره لمن أراد التضحية وهو والله أعلم أن هذه العشر هي مقدمة للعتق من النار الذي يكمل بالافتداء بالأضحية كما سبق فينبغي أن يبقي كل ذرة من جسمه لأنه محتاج إلى فدائها فاذا أخذ شيئا فكأنه مستغن أو معرض فيخشى من بعض إعراض الله لعزته البالغة سبحانه فينعدم كمال العتق.
ج. كما أنها تشتمل على معاني أخرى مثل إظهار شكر الله تعالى وحده المنعم المتفضل المتضمن لتوحيده وذكره ولذا فإنه لا يذكر عليها عند ذبحها إلا اسمه سبحانه ومثل البذل والصدقة التي تقي شح النفس وتشيع التكافل والتماسك والموالاة بين المسلمين وغير ذلك مما يحبه الله تعالى.
وهذا يلفتنا إلى أهمية الأضحية وعظيم خطرها ونفعها فلا ينبغي أن يتهاون في أمرها مؤمن يحب الله تعالى ويحرص على فداء نفسه من عذابه ولكن دورها التكميلي يدل على ترجيح كونها سنة متأكدة الاستحباب كما يقول الجمهور لا واجبة لأن أصل المقصود وهو العتق يتحقق في يوم عرفة ويستفاد من ذلك أيضا أن النهي عن الأخذ من الشعر وغيره للتنزيه لأنه للكمال أيضا كما في أصل الأضحية.


سادسا: كل عيد إنما يأتي بعد عبادة كبرى تقوم بها الأمة فيكون بمثابة الجائزة والضيافة من الله تعالى بعد إقبالها عليه ولذا يحرم صيامه وهذا يرجح وجوب الحج لمن يستطيعه على الفور فالحج شعيرة الأمة يجب على كل أفرادها جميعا ممن لم يحج ويستطيع الحج والحجاج يمثلون الأمة فينبغي ألا يبقى مكلف قادر على الحج ولم يحج إلا ويحج إلا من منعه عذر ثم إن هذا الخير يعم كل من حقق مقاصد الحج ومقاصد العشر ممن لم يتمكن من الحج على قدره وهذا يبين السر في استحباب التراويح جماعة في رمضان مع استحباب صلاة النافلة في البيوت في غيره وذلك لأن رمضان شعيرة الأمة وعبادتها كذلك
 

سابعا: أيام التشريق مع يوم الأضحى أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى لأنها أيام شكر وضيافة من الله تعالى لزوار بيته الحرام ولمن أقبل عليه من عباده في خير أيام الدنيا ومن مقاصد المداومة على الذكر فيها التعود عليه في غير الأيام المخصوصة ليصير ديدنا لصاحبه لأن المكوث أربعة أيام يخرج صاحبه من حد السفر إلى حد الإقامة ولذا أمر المهاجرون ألا يقيموا بمكة فوق ثلاث (متفق عليه) إتماما لهجرتهم لأنهم تركوها لله تعالى فكذلك حد الإقامة على الفعل يتحقق بالمكوث فيه أربعة أيام على الأقل.
والله تعالى أعلم وأحكم.

............................
(*) من علماء فلسطين