ممدوح الولي
نقيب الصحفيين المصريين سابقًا


كشف البنك المركزي المصري للمرة الأولى منذ عقود، عن قائمة الدول التي اتجهت إليها الاستثمارات الأجنبية المباشرة الخارجة من مصر، في العام المالي الأخير 2021/ 2022 المنتهي آخر يونيو الماضي، بعد أن ظل ينشر فقط أسماء الدول التي تأتي منها الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وهكذا أصبح ممكنا معرفة الميزان الاستثماري لمصر مع دول العالم.
مثلما نتحدث عن الميزان التجاري السلعي مع دول العالم بوصفه فرقًا بين قيمة الصادرات إليها والواردات منها، أصبح ممكنا المقارنة بين قيمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة -أي التي تتصل بالمشروعات- الواردة من إحدى دول العالم، وبين الاستثمارات الأجنبية المباشرة الخارجة من مصر إلى تلك الدولة.
وهو ما طبقناه على تعاملاتنا الاستثمارية مع إيطاليا خلال ذلك العام المالي، لنجد أن مصر تلقت منها استثمارات مباشرة بقيمة مليار و997 مليون دولار، وخرجت إليها من مصر استثمارات مباشرة بقيمة 3 مليارات و645 مليون دولار، ليظهر عجز لمصر معها بميزانها الاستثماري بقيمة مليار و649 مليون دولار.
وقد تبين عجز استثماري مع عدة دول أخرى منها: اليابان وأستراليا والنرويج وشيلي ولاتفيا والنمسا وسلطنة عمان ودول عربية أخرى، حيث شملت بيانات البنك المركزي 58 دولة من بينها 13 دولة عربية، وذكرت أن مصر حققت عجزا استثماريا مع باقي الدول العربية بقيمة 322.5 مليون دولار، وتشمل الدول غير المذكورة تفصيليا ببيانات المركزي سوريا والعراق والجزائر وغيرها.


إرضاء الصندوق سبب الإفصاح
وجاء كشف البنك المركزي عن بيانات الجهات التي توجهت إليها الاستثمارات الأجنبية المباشرة الخارجة من مصر، تنفيذًا لتعهد الجانب المصري لصندوق النقد الدولي بخطاب النيات المتعلق بطلب القرض الأخير من الصندوق، بالمزيد من الشفافية والإفصاح عن البيانات المالية.
وهكذا وجد البنك المركزي لنفسه مخرجا يعوض شيئا من نكوصه عن وعوده بتحقيق المرونة في سعر الصرف، ووعود الحكومة بالمزيد من بيع الأصول وإفساح المجال للقطاع الخاص التي لم تتحقق بعد، بحيث تبدو صورة الجانب المصري أمام الصندوق بها بعض الإنجازات.
ولكن ما هي أبرز تلك الدول التي اتجهت إليها الاستثمارات المباشرة الخارجة من مصر خلال ذلك العام المالي البالغة 13 مليار و268 مليون دولار؟ وهو رقم غير مسبوق تاريخيا. جاءت إيطاليا في الصدارة بنحو 3.6 مليارات دولار، تليها إنجلترا بـ1.8 مليار دولار، والإمارات العربية بـ1.66 مليار دولار، والولايات المتحدة بـ1.3 مليار، وهولندا بـ627 مليون دولار، لتستحوذ الدول الخمس على نسبة 68% من الإجمالي.
ثم جاءت كوريا الجنوبية بـ305 ملايين دولار، وفرنسا بـ221 مليونا، وألمانيا بـ202 مليون، والكويت بـ200 مليون، ولكسمبورغ بـ193 مليون دولار، وأكثر من مئة مليون دولار لكل من سويسرا وسنغافورة والصين وبلجيكا وقطر وأيرلندا والسعودية وإسبانيا وكندا.
وتضم تلك الاستثمارات الخارجة خليطا من مبالغ محولة إلى الخارج لاستثمارها في مشروعات بتلك الدول من قبل رجال أعمال مصريين، ومبالغ محولة لشراء عقارات بتلك الدول، وقروضا مقدمة لفروع الشركات المصرية بالخارج، وشركات أجنبية كانت تعمل بمصر وغيرت مكان عملها، واستردادا للتكاليف التي تحملتها شركات بترول وغاز أجنبية وعربية عاملة بمصر، خلال فترات سابقة بأعمال البحث والتنمية والتشغيل.
وتساهم بيانات دول الاستثمارات الأجنبية المباشرة الخارجة من مصر، في إعادة ترتيب أوائل الدول المستثمرة بمصر خلال السنوات المختلفة، ففي العام المالي الأخير وبعد أن كانت إنجلترا تأتي في المركز الرابع في دول الاستثمار الوارد لمصر بقيمة ملياري دولار، أصحبت حسب صافي الاستثمار بعد استبعاد القدر الذي خرج إليها، بالمركز الثالث عشر بقيمة 234 مليون دولار فقط.
وكذلك الأمر مع الولايات المتحدة التي انتقلت من 1.5 مليار دولار بالمركز الخامس بين دول العالم، إلى المركز الرابع عشر بقيمة 200 مليون دولار فقط، وكوريا الجنوبية من 312 مليون دولار إلى صافي 7 ملايين دولار فقط، وإسبانيا من 125 مليون دولار إلى 20 مليون دولار، واليابان من 74 مليون دولار إلى عجز بـ18 مليون دولار.


 الأزمات الاقتصادية تزيد خروج الاستثمارات
وقد انخفض النصيب النسبي لدول الاتحاد الأوربي من 30% من مجمل الاستثمار، المباشر الوارد إلى مصر إلى أقل من 16% بصافي الاستثمارات، بينما زاد نصيب الدول العربية من 37% بالاستثمارات الداخلة، إلى 61% بصافي الاستثمارات نظرا لقلة الاستثمارات الخارجة إليها، بالمقارنة مع قيمة الاستثمارات الخارجة إلى الدول الأوربية والآسيوية.
باستعراض تاريخ الاستثمارات الأجنبية الخارجة من مصر، نجد أن معدلاتها تزيد في أوقات الأزمات، حيث زادت مع أحداث ثورة الخامس من يناير 2011، وزادت بعد تولي الجيش السلطة في يوليو 2013، كما زادت بعد التظاهرات التي حدثت في سبتمبر 2019 واستمرت مرتفعة منذ ذلك الحين، حتى بلغت ذروتها في العام المالي الأخير، متأثرة بنقص العملات الأجنبية وعدم استطاعة الشركات استيراد المواد الخام ومستلزمات الإنتاج وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية.
ونظرا لتزايد ملامح الأزمة الاقتصادية المصرية منذ انتهاء العام المالي المذكور في يونيو الماضي وحتى الآن، من ارتفاع لمعدلات التضخم ومعدلات فائدة الاقتراض، واستمرار حالة الركود بالأسواق وتراجع القدرات الشرائية، واتساع الفجوة بين سعر الصرف الرسمي والسعر بالسوق السوداء، واستمرار انخفاض قيمة الجنيه المصري أمام الدولار بعقود الصرف الآجلة.
ونظرا لخفض وكالة موديز للتصنيف الائتماني تصنيف مصر في فبراير الماضي، للمرة الأولى منذ عام 2013، وخفض النظرة المستقبلية لمصر من مستقرة إلى سلبية بوكالات التصنيف الثلاث موديز وفيتش واستاندر أند بورز، وتريث الصناديق السيادية السعودية والقطرية والكويتية، في شراء حصص من الشركات المصرية انتظارا لمزيد من الانخفاض لسعر صرف الجنيه، للحصول على تلك الحصص بتكلفة أقل، بل وتريث استثمارات القطاع الخاص المصري بسبب حالة الضبابية فيما يخص سعر الصرف.
وكذلك استمرار انخفاض تحويلات المصريين بالخارج عبر الجهاز المصرفي، وما أعلنه البنك المركزي المصري من ارتفاع العجز في صافي الأصول الأجنبية في مارس الماضي إلى 24.5 مليار دولار، وهو ما يشير إلى إخفاق محاولات البنك المركزي والحكومة علاج نقص الدولار خلال الشهور السابقة، فإن تلك العوامل تدفع إلى استمرار خروج الاستثمارات الأجنبية من مصر.
وهو ما أكدته بيانات البنك المركزي الخاصة بميزان المدفوعات خلال النصف الثاني من العام الماضي، حين أشارت إلى استمرار العجز في صافي الاستثمارات الأجنبية بقطاع البترول بقيمة 858 مليون دولار، وهو الفرق بين الاستثمارات البترولية الداخلة البالغة 2.6 مليار دولار، والخارجة البالغة 3.5 مليارات دولار بالقطاع.