بقلم ا/ أشرف الشربيني

في حسابات السياسة، عندما تختل موازين القوى بين طرفين متصارعين، يصبح انسحاب الطرف الأضعف هو أفضل الخيارات، ويصبح استمراره في معركة غير متكافئة نوع من استنزاف الوقت والطاقة وربما الدماء، وتكون النهاية الحتمية لذلك الصراع، هزيمة مؤكدة وخضوع أكيد من الطرف الأضعف.

 ربما كان الاستثناء الوحيد من هذه المعادلة المنطقية هى حركات المقاومة فى وطن محتل، وأكثرها تفشل وتتراجع اذا لم تجد دعماً دولياً وحاضنةً شعبية، لكن في حسابات العقيدة والايمان تختلف معادلة الصراع ونتائجها، فيصبح الدفاع عن الدين والوطن والمال والعِرض انتصاراً، حتى ولو أدى ذلك إلى الموت، فهو حينذاك (أسمى أمانينا)، وفق أدبيات جماعة الإخوان المسلمين.

وتُعد جماعة الاخوان المسلمين أظهر مثال على ذلك، فرغم تعرضها لمحن قاسية ومتتابعة، إلا أن المراقب لسلوكها يجد أنها بعد كل محنة تزداد انتشاراً وشعبية، ليس فى مصر وحدها إنما فى أرجاء العالمين العربى والاسلامى جميعاً!

بحسابات السياسة، أخطأ الإخوان المسلمون حين اختاروا مواجهة الاحتلال الإنجليزى والاصطدام به خلال الحقبة الملكية (1928-1952)، بينما لجأ حزب الأغلبية فى ذلك الوقت (الوفد) إلى التفاوض (1918-1951)، كوسيلة لنيل الاستقلال عن بريطانيا، وعندما عقد النحاس باشا معاهدة 1936 مع بريطانيا، والتي تجعل من قوات الاحتلال الموجودة بالقناة، قوات حليف لا قوات عدو! واعتبر النحاس باشا هذه الاتفاقية مكسباً، كسب به صداقة الانجليز، أعلن الاخوان المسلمون رفضهم لهذه الاتفاقية، معلنين أن بريطانيا عدوة للمصريين ما دامت تحتل أرضهم، ثم أنشأ الإخوان كتائب لمقاومة الاحتلال (النظام الخاص)، والتى قام أفرادها بأعمال فدائية في منطقة القناة وغيرها؛ مما رفع من كلفة وجود الاحتلال، وأجبره، مع عوامل أخرى، على الجلاء عن مصر.

وعندما قامت بريطانيا بزرع الكيان الصهيوني في فلسطين، وتواطأ معها أنظمة حكم عربية ونخب ومثقفين، سيَّر الإخوان المسلمون المظاهرات رفضاً لمشروع بريطانيا، بل وشاركوا في حرب 1948، فحُلَّت جماعتهم وقُتل مرشدهم وسيق أفرادها إلى السجون.

وبحسابات السياسة، كان على الإخوان المسلمين مسايرة انقلاب 1952، والتماهى مع من استبد بأمر البلاد كما فعل غيرهم، لكنهم رفضوا استبداد عبد الناصر، كما رفضوا مطاوعته في الالتحاق بركب الشيوعية وتبنى نظرياتها، فأُعدم قادتُهم وأُدخل شبابُهم السجون لنحو عشرين عاما.

وبحسابات السياسة، كان على الإخوان أن يكونوا جزءاً من التركيبة السياسية التى طوَّع بها السادات الجميع، من خلال فكرة المنابر والتى تطورت لاحقا إلى أحزاب تحت الطلب والحاجة، فاختار الإخوان المسلمون أن تكون لهم معادلتهم الخاصة، والتى دخلوا بها حقبة مبارك الثلاثينية، وحينما تحرَّك الجميع وِفق الهامش المتاح زمن مبارك، انطلق الإخوان من المتاح إلى الممكن، فأحيوا النقابات المهنية بعد أن كانت مواتا، وأعادوا المياه جارية فى نهر السياسة بعد أن جفَّ ماؤها، فدفعوا ثمن ذلك أن كانوا ضيوفاً دائمين فى سجون مبارك.

وبحسابات السياسة كذلك، أخطأ الإخوان حين لم يتحالفوا مع (الدولة العميقة) بعد ثورة يناير، بصفقات واتفاقات كما فعل غيرهم، فاختاروا حماية الثورة والدفاع عن الشرعية فى (معركة الجمل) أولاً، ثم أكملوا الطريق حتى وصلوا بالثورة إلى مقعد الرئاسة ثانياً، ثم أصروا على تمكين الشعب من الاستفتاء على الدستور أخيراً، فانتزعوا بذلك (الشرعية) من نظام مبارك، وردُّوها إلى الشعب حقاً أصيلاً له، فكان ثمن ذلك أن استعدوا عليهم كل أعداء الديمقراطية، فاستباحوا أعراضهم وسمعتهم.

وبحسابات السياسة كذلك، أخطأ الإخوان حين رفضوا أن يكونوا جزءاً من الانقلاب على المسار الديمقراطى، فاختاروا الانحياز إلى شرعية الشعب وثورته، فنزلوا إلى الشوارع يقودون الجماهير ضد انقلاب 2013 المدعوم إقليميا وعالميا، فتعرضوا للمذابح الواحدة تِلو الأخرى، فى محاولة لإسكاتهم أو إخضاعهم، حتى ارتكبت بحقهم أكبر مذبحة فى التاريخ الحديث، مجزرة رابعة والنهضة، ثم دفع الرئيس محمد مرسى حياته ثمناً لتلك الشرعية.

كانت خيارات الإخوان فى كل ما سبق، خيارات أخلاقية مبدئية، وإن لم تغب عنهم فيها مرونة المواقف وتكتيكات السياسة، فدفعوا ثمناً باهظاً من حريتهم وأمانهم، حين خاضوا معركة الثورة ضد الاستبداد والفساد، معتبرين ذلك من ثوابتهم الإسلامية والوطنية، لكن فى المقابل كان رصيدهم عند الشعوب دوما في زيادة، حتى صاروا القوة السياسية والاجتماعية الأولى في مصر والعالم العربى، وصار المؤمنون بأفكارهم أكثر من المنضوين تحت لواء تنظيمهم.

ولم يغِب عن الإخوان المسلمين طوال هذا التدافع، مراجعة الأخطاء وتقويم الانحرافات، فهم أصحاب أول مراجعة تتم فى السجون، حين انحرف بعض الإخوان – أمام هول التعذيب وبشاعته – إلى نوع من تكفير من يعذبونهم، كما وقف الاخوان المسلمون فى السجون موقفاً حاسماً من تأييد البعض لعبد الناصر، طمعاً فى إفراج مشروط بتأييده، فاختلط صعود الإخوان على مدرج الشعبية والإنجاز، بثمن باهظ دفعوه من أبنائهم وأمانهم، وصاروا بذلك أملاً تتعلق به شعوب عطشى لمن يعبر عنهم ويحقق آمالهم، فى حياة حرة عزيزة واستقلال حقيقى ناجز وعادل.

ولايزال الإخوان المسلمون، يواصلون الصعود فى خدمة أوطانهم، فيراكمون الوعى ويستدركون الخطأ ويقوِّمون المسار، فى (وطنية) لا تستبعد الأخلاق ولا تعادى الدين، الحرية عندها فريضة والسياسة عندها مسئولية.