إن الأيام عند الله تعالى ليست كلها سواسية، بل فضَّل بحكمته بعضَها على بعض، واختار بعضها من بعض، "فلله خواص من الأزمنة والأمكنة والأشخاص"، "وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ" [القصص: 68].

ويقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : "افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم، وأن يُؤَمِّن روعاتكم" (رواه الطبراني بسند حسن، وانظر السلسلة الصحيحة : 1890).

 

فوائد مواسم الطاعة

•      "سدّ الخلل، واستدراك النقص، وتعويض ما فات، وما من موسم من هذه المواسم الفاضلة إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف الطاعة يتقرب بها العباد إليه، ولله تعالى فيها لطيفة من لطائف نفحاته يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من طاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات" (ابن رجب في اللطائف ص40).

•      اندحار الشيطان وضعفه؛ قال الإمام الحسن: "قال إبليس: سوَّلتُ لأمة محمد المعاصي فقطعوا ظهري بالاستغفار، فسوَّلت لهم ذنوبًا لا يستغفرون منها، يعني الأهواء، ولا يزال إبليس يرى في مواسم المغفرة والعتق من النار ما يسوءه".

•      رفع درجة المسلم في الآخرة: كما أن للتجارة مواسم فكذلك الطاعات لها مواسم، وكما يحاول الناس في مواسم التجارة أن يضاعفوا من نشاطهم ليزداد ربحهم، فمواسم الطاعات أولى أن يغتنمها المسلم ليرفع درجته عند الله في الآخرة.

•      التزود منها للدار الآخرة؛ فهذه المواسم بمثابة محطات إيمانية نستمد منها ما يعيننا ويثبتنا على طريق الإيمان، فحياتنا أوقات قليلة نعيشها، فعلى المسلم أن يعرف قدر عمره وقيمة حياته، فيكثر من عبادة ربه، ويواظب على فعل الخيرات إلى الممات. قال الله تعالى: "واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" (الحجر: 99) قال المفسرون: اليقين في الآية هو الموت.

•      وعلى رأس هذه المواسم جميعًا، الشهر الذي اختاره الله وفضله، وأنزل فيه كتابه الكريم، ألا وهو شهر رمضان المبارك.

 

فقه متطلبات السباق

يقول الله تعالى: "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ" (آل عمران:133)

ويقول: "سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ" (الحديد:21).

قال الإمام ابن كثير (رحمه الله) في تفسيره: "نَدَبَهُم إلى المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة".

وقد ربَّي الإسلام أبناءه على استشعار هذا المعنى في أمر الآخرة حتى جعل الفرد المسلم يتطلع إلى أن يجعله الله إمامًا للمتقين، فقال الله عز وجل عن أولئك النفر من عباده: "والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا" (الفرقان: 74).

ومن صور ذلك التنافس الشريف: المسابقة إلى صور من العبادة قد لا يصبر عليها إلا السابقون، كالأذان، والصف الأول، والتبكير إلى الصلوات، قال (صلى الله عليه وسلم): "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا عليه، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوًا" (رواه البخاري615، ومسلم437).

بل علَّم النبي (صلى الله عليه وسلم) أمته المبادرة والمسارعة في أمور الآخرة فقال: "بادروا بالأعمال الصالحة فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا" (رواه مسلم: الإيمان (118)، والترمذي : الفتن (2195)، وأحمد (2/303).

وقال: "التؤدة في كل شيء خير، إلا في عمل الآخرة" (رواه أبو داود والحاكم والبيهقي).

ولقد تعلَّم أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) الدرس فكانوا يتنافسون فيما بينهم في مرضاة الله تعالى، فحين طلب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الصحابة أن يتصدقوا قال عمر (رضي الله عنه): ووافق ذلك عندي مالًا فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ما أبقيتَ لأهلك؟ قلتُ: مثله. وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: يا أبا بكر ما أبقيتَ لأهلك؟ فقال: أبقيتُ لهم الله ورسوله. عندئذ قال عمر: لا أسبقه إلى شيء أبدًا.

وفي يوم آخر يستمع الرجلان - أبو بكر وعمر- إلى ثناء الرسول (صلى الله عليه وسلم) على قراءة ابن مسعود: "من سره أن يقرأ القرآن غضًّا كما أُنزل فليقرأه من ابن أم عبد". فبادر عمر ليلًا لينقل البشرى لابن مسعود، فقال ابن مسعود: ما جاء بك هذه الساعة؟ قال عمر: جئت لأبشرك بما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قال ابن مسعود: قد سبقك أبو بكر. قال عمر: إنْ يفعل فإنه سبَّاق بالخيرات، ما استبقنا خيرًا قط إلا سبقنا إليه أبو بكر".

انظر إلى هذا الرقي والسمو في أخلاق هؤلاء الأكابر، يتنافسون لكن بحب واحترام وفرح بما مَنَّ الله به على المنافس من خير وسبق، ليس بحقد أو امتهان أو حسد.

وما أقبح التفريط في زمن الصبا        فكيف به والشيب للرأس شاعل

ترحَّـل من الدنيــــا بزاد من التقـى         فعمـرك أيـــــــام وهــــــن قلائــــل

وقال آخر:   

اغتنم في الفراغ فضـــل ركـوع         فعسى أن يكون مـوتك بغـتة

كم صحيح رأيت من غير سقم         ذهبت نفسه الصحيحـة فلتـة

وإليك هذه القصة العجيبة لتعلم أن رمضانَ واحدًا يمكن أن يرفع المرء درجات في الجنة لا يتخيلها أحد: روى طلحة ابن عبيد الله أن رجلين من "بلى" قدما على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكان إسلامهما جميعًا، وكان أحدهما أشد اجتهادًا من الآخر، فغزا المجتهِد فاستُشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفى، قال طلحة: فرأيتُ في المنام: بينا أنا عند باب الجنة فإذا هم، فخرج خارج من الجنة فأذن للذي توفى الآخِر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجع إليّ فقال: ارجع لم يُؤذن لك بعد.

فأصبح طلحة يحدث الناس فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وحدثوا الحديث فقال من أي ذك تعجبون؟ فقالوا يا رسول الله هذا كان أشد الرجلين اجتهادًا ثم استُشهد ودخل الآخر قبله! فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ قالوا بلى. قال: "فأدرك رمضان فصامه وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟ قالوا بلى. قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض" (حسنه المنذري وصححه ابن حبان).  

وليس مثل شهر رمضان منافسة في الآخرة؛ يقول الحسن البصري (رحمه الله): "إن الله جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلي مرضاته، فسبق قوم ففازوا وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر المبطلون".

أتى رمضـــانُ مزرعــــةُ العبــاد         لتطهير القلوب من الفساد

فـأد حقوقـــــه قــــولًا وفعــــــلًا         وزادكَ فاتخــــــذهُ للمعـــــــاد 

فمن زرع الحبوبَ وما سقاها         تأوه نادمــــــــــًا يومَ الحصـــادِ