سعيد الحاج

 

قبل الزلزال الذي ضرب الجنوب التركي في السادس من فبراير الحالي، كانت الانتخابات الرئاسية البرلمانية التركية مقررة في يونيو المقبل، بل قال الرئيس رجب طيب أردوغان إنه بصدد استخدام صلاحياته الدستورية بالدعوة لتبكيرها إلى الرابع عشر من مايو. لكن الزلزال المدمر (بالأحرى الزلزالان المتتاليان) ترك بصمته وآثاره على مختلف مناحي الحياة في البلاد بما فيها السياسية، ودارت نقاشات حول احتمال و/أو ضرورة تأجيل الانتخابات.

وفق المواقف المعلنة لا يريد أي من الأحزاب السياسية أن يناقش موضوع الانتخابات في ظل الأزمة الإنسانية الحالية وقبل انتهاء أعمال الإنقاذ، بل إن مسؤول شؤون الانتخابات في حزب العدالة والتنمية قال إن ذلك يُعدُّ "إهانة لأرواح شهداء الزلزال".

لكن وفق التصريحات والتصريحات المقابلة، يبدو أن الجميع يناقش الأمر من حيث منطلقاته ودوافعه ومساره القانوني ثم ارتداداته السياسية، وقد وردت تصريحات بهذا الاتجاه من الفريقين، من القيادي السابق في حزب العدالة والتنمية بولند أرنتش وكذلك من كمال كليتشدار أوغلو وميرال أكشنار وأحمد داود أوغلو وعلي باباجان، رؤساء أحزاب الشعب الجمهوري والجيد والمستقبل والديمقراطية والتقدم على التوالي.

حجة من يتبنون فكرة ضرورة تأجيل الانتخابات تبدو وجيهة، فهناك عشر محافظات منكوبة فيها عشرات آلاف الوفيات والإصابات والبيوت المهدمة، فضلًا عن مئات آلاف (إن لم يكن ملايين) النازحين عنها، وبنية تحتية مهدمة بما في ذلك مؤسسات الدولة. ولذلك ستظهر في الأفق مشاكل تقنية وفنية كثيرة في مسألة الانتخابات؛ من الأوراق الثبوتية إلى تغير التركيبة السكانية وتأثيرها على عدد النواب المفترض لكل محافظة، فضلًا عن عدم مناسبة إجراء حملات انتخابية وسط حاضنة شعبية منكوبة. ويرى هؤلاء أنه "من غير اللائق" أن ينشغل السياسيون والدولة بأسرها بالحملات الانتخابية قبل أن تُضمد جراح هؤلاء بشكل كامل، وأن الدولة ينبغي ألا تنشغل عنهم بالمعارك السياسية، على ما يقولون.

في المقابل، فحجة معارضي التأجيل كذلك وجيهة. فهم يرون أن الزلزال ليس عائقًا أمام الانتخابات بل لعله يزيد من ضرورتها. إذ وفق رأيهم يمكن حل المشاكل التقنية خلال الأشهر المقبلة قبل موعد الاقتراع، والحملات الانتخابية يمكن الاستعاضة عنها ببرامج دعم للمحافظات المنكوبة، والانتخابات استحقاق وليست ترفًا وبالتالي هي فرصة للمواطن للتعبير عن رأيه في المنظومة السياسية القائمة، وبالتالي يصبح تبكير الانتخابات سلبًا لحقه هذا، فضلًا عن العائق الدستوري.

فالمادة 78 من الدستور تمنح صلاحية تأجيل الانتخابات للبرلمان دون الرئيس وتحصرها بحالة تعذر إجرائها بسبب الحرب، ما يوصد الباب أمام إمكانية ذلك وفق كثيرين، وخصوصًا المعارضة، بينما هناك خيارات قد تتيح ذلك فيما يبدو.

قد يدعو البعض لتفسير مختلف للمادة، إذ هي ربطت التأجيل بـ"تعذر إجرائها" بسبب الحرب وليس بمجرد "الحرب"، ما يعني إمكانية القياس على ذلك من باب أن دمار الزلزال لا يقل أثرًا عن الحرب وأنه يحول دون إجرائها في المحافظات المنكوبة. ولعله من الملاحظ أن التصريحات الرسمية ربطت بشكل ضمني بين الزلزال والحرب بقياس قوته التدميرية بالقنابل النووية فضلًا عن أرقام الضحايا والمصابين. لكن هذا مسار لا ينجح بمفرده، إذ في النهاية سيحتاج الأمر إلى قرار من البرلمان.

وهناك من يرى بأن الهيئة العليا للانتخابات يمكن أن تصدر قرارًا بهذا الاتجاه، بأن تعلن استحالة إجراء الانتخابات في التاريخ المعلن وبالتالي تأجيلها. وهنا تبرز معضلة دستورية أخرى، إذ أن تحديد موعد الانتخابات ليس من صلاحيات الهيئة التي تدير العملية الانتخابية بالكامل بعد تحديد موعدها، لكن من جهة ثانية فقراراتها ملزمة ونافذة ولا يمكن الطعن عليها مطلقًا وفق نص الدستور ذاته. وبالتالي إن صدر عن الهيئة قرار من هذا النوع ستكون قد تخطت صلاحياتها لكن لن يكون هناك سبيل للطعن عليه، وقد لا تستجيب المحكمة الدستورية لأي طعن من هذا النوع من قبل المعارضة. لكن هذا خيار جدلي بامتياز كما هو واضح، ومن المستبعد اللجوء له إلا في حالة الاضطرار الشديد.

وهناك مسار ممكن دستوريًا ومريح سياسيًا، وهو توافق التحالف الحاكم مع المعارضة على تعديل المادة الدستورية ذات العلاقة لتشمل إضافة للحرب أسبابًا أخرى قد تحول دون إجراء الانتخابات مثل الآفات الطبيعية. هذا الخيار ممكن دستوريًا لأن الطرفين معًا يملكان صلاحية وإمكانية تعديل الدستور بشكل مباشر، ومريحة سياسيًا لأنها ستأتي بتوافق بين الجانبين.

لكن ذلك لا يحل المشكلة الأساسية، إذ الدستور هنا ذريعة فيما يبدو وليس السبب الرئيس، بينما الحسابات تنصب في الأساس على العائد السياسي من قرار التأجيل، ونقصد هنا تأثير ذلك على نتائج الانتخابات.

فمن البديهي أن إجراء الانتخابات في ظل التأثيرات المباشرة للزلزال تصب في صالح المعارضة التي ستسعى لاستثمار غضب الناس في المحافظات المنكوبة ومشاعرهم السلبية المتأثرة بالأزمة، بينما التأجيل يصب في صالح أردوغان والتحالف الحاكم، إذ سيبعد الناس زمنيًا عن الأزمة وسيتيح للحكومة القيام ببعض الخطوات والإجراءات التخفيفية وفي مقدمتها البدء بعملية إعادة الإعمار.

وعليه، أعلنت عدة أحزاب معارضة معارضتها لتأجيل الانتخابات، إذ لا تريد تفويت فرصة من هذا النوع على نفسها. ولكن حتى هذا المعنى ليس على إطلاقه، فالتأجيل طويل الأمد لن يكون بالضرورة لصالح الحكومة بل ربما كان وبالًا عليها بسبب تأثيراته على الاقتصاد وسعر صرف الليرة والتضخم، وبالتالي غلاء الأسعار وما إلى ذلك، حيث كانت الحكومة على مدى الشهور الفائتة قد بذلت الكثير في سبيل تخفيف تأثير الأوضاع الاقتصادية على المواطنين قبيل الانتخابات، لكن تأجيلها مدة طويلة مع التكلفة الباهظة لتبعات الزلزال قد يعني معاناة أكثر وليس العكس.

وعليه، يمكن أن يضغط الحزب الحاكم باتجاه تأجيل قصير الأمد وليس بعيدًا، وقد تستجيب أحزاب المعارضة لمقترح من هذا النوع، إذ سيجنبها الاتهامات باستغلال أزمة المنكوبين لأهداف انتخابية من جهة ويمنحها زمنًا إضافيًا لترتيب أوراقها والتوافق فيما بينها على مرشح توافقي من جهة ثانية. ومما قد يساعد في خيار كهذا أن يصدر عن الهيئة العليا للانتخابات ما يفيد باستحالة أو تعذر إجراء الانتخابات في موعدها لأسباب فنية، مما يمكن أن يشكل ضغطًا إضافيًا على المعارضة خصوصًا والبرلمان عمومًا.

لكن، أخيرًا، ورغم كل ما سبق تفصيله، لا يبدو أن تأجيل الانتخابات خيار حتمي بالضرورة، فالأمر مرتبط من جهة بالشروط الفنية المطلوبة ومن جهة أخرى بالتقدير السياسي من مختلف الأطراف وفي مقدمتها الرئيس التركي. فقد لا يميل أردوغان لفكرة التأجيل إن حُسبت على أنها نابعة من خوفه من النتيجة أو تراجع فرصه أو كان تقديره أن التأجيل ليس في صالحه، خصوصًا في ظل القرارات الكثيرة والوعود المتنوعة التي بذلتها الحكومة حتى اللحظة للمتضررين من الزلزال، والتوقع ببدء عملية الإعمار قريبًا جدًا.

ولعل في ذلك ما يفسر ما نقلته وسائل الإعلام عن مسؤول في حزب العدالة والتنمية أن أردوغان رفض فكرة التأجيل في الاجتماع الأخير لقيادة الحزب وأصر على إجرائها في الرابع عشر من مايو المقبل، وليس حتى في موعدها الأصلي في يونيو. وليس واضحًا حتى اللحظة ما إذا كان هذا موقفًا نهائيًا منه أو دفعًا لكوادر حزبه للعمل وعدم التراخي، أم كان مجرد مناورة سياسية تجاه المعارضة.

في الخلاصة، هناك مسار دستوري يمكن أن يتيح تأجيل الانتخابات من خلال توافق التحالف الحاكم والمعارضة، لكن هذا التوافق محل شك وكذلك هي التقديرات السياسية لمسوغات التأجيل من جهة وتأثيره على العملية الانتخابية من جهة ثانية. وهناك مسارات أخرى يمكن أن تزيد حالة الجدل والاستقطاب في البلاد، ولا يتوقع اللجوء إليها إلا في حالة استعصاء التوافق مع المعارضة والحاجة الشديدة للعدالة والتنمية.