د. سليمان صالح

 

تملأ القلب مشاعر الحسرة والألم والحزن على دماء المسلمين التي تتدفق في كل مكان على هذه الأرض.. لكن الزلزال جعل تلك المشاعر تتوهج، لتنتج الكثير من المعاني؛ فالخطب جلل والمصاب عظيم.

يقف الإنسان حائرا يشعر بالضعف؛ فلا يملك للآلاف من إخوانه سوى أن يتوجه إلى الله بالدعاء.. تكاد الدموع تحجب حروف كلمات الأخبار الحزينة التي تتضمن أعداد الشهداء والمصابين والمباني المنهارة.. ولكن لماذا أشعر بكل ذلك الحزن بعد أن واجهت في حياتي الكثير من المآسي، ومن أهمها زلزال 1992 في مصر، ورأيت مشاهد الدمار في أحياء القاهرة؟

 

قوة القصص الإنسانية!

بعد ذلك الزلزال دخلت المحاضرة في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، ووجهت الطلاب لإنتاج قصص إنسانية، وطلبت منهم البحث عن أفكار مبتكرة للإجابة عن أسئلة جديدة من أهمها: كيف يمكن أن نستخدم وسائل الإعلام لتوحيد شعبنا في مواجهة الكارثة؟ وكيف يمكن أن ندير خلافاتنا بأساليب جديدة تقوم على التعاون والمشاركة في تخفيف آلام الكارثة على شعبنا؟ وطلبت من الطلاب ابتكار أساليب صحفية جديدة لتقديم القصص الإنسانية؛ فاستجاب الطلاب وأبدعوا وأنتجوا قصصا إنسانية.. لكن المؤسسات الإعلامية المصرية لم تستجب لذلك الاتجاه الحديث في التغطية!!

 

نحن أمة واحدة

من أهم المعاني التي سطعت في ذهني بين الأحزان وأنا أتابع وسائل التواصل الاجتماعي؛ أن هناك حالة حزن عام؛ فالشهداء والمصابون إخواننا، ونحن نحبهم؛ لأننا أمة واحدة رغم أنف كل من يحاولون إثارة الفرقة بيننا.. فالإسلام يوحدنا، ويجعلنا نشعر بالألم، ونحن نودع أحبابنا الشهداء، ونحن بالفعل كالبنيان المرصوص، وجاء الزلزال ليجعلنا نعيش هذا المعنى. لقد حدث زلزال في قلوبنا، وستكون له توابع على المستوى السياسي والثقافي.

نعم التركي أخي، والزلزال جعل المسلمين في العالم كله يشعرون بالألم والحزن، ويعيشون المأساة بقلوبهم.. فهل جاء هذا الزلزال ليوحدنا، وهل علمتنا دماء إخواننا أننا ننتمي إلى خير أمة أخرجت للناس، وأننا نعبد الله وحده، وأن تلك العبادة أهم وأعظم من رابطة الدم والعرق؟ فالدم التركي الذي تدفق في الزلزال هو دمي، وأنا أقف بجانب التركي في الصلاة نتوجه معا إلى قبلة واحدة، ونعبد الله الواحد الأحد.. وتلك أقوى رابطة.

الزلزال أوضح لنا أن الأخوة في الله أقوى من أخوة النسب، وأن الوحدة الإسلامية تقوم فقط على الانتماء للدين، والاعتصام بحبل الله، والعمل لإعلاء كلمة الله، وأن القرآن يبني مستقبلنا.

 

ذلك الحب يليق بكرامة الإنسان!

هذا الحب في الله الذي جعلني أعيش المأساة مع إخواني الأتراك يميز الإنسان المسلم، فالزلزال أثبت لنا أن الحب في الله أقوى وأعظم من العرق والمصلحة ورأس المال والتقدم والحداثة وما بعدها.

هذا الحب يعجز العلم الحديث عن تفسيره لأنه ينبع من القلب، ويرتبط بكرامة الإنسان، وتميزت به الحضارة الإسلامية وحدها التي انصهرت فيها كل الأعراق من دون تفرقة.

هذا الحب يليق بالإنسان الذي كرمه الله، ولا يدرك جمال المعنى ونوره إلا من عاشه. والزلزال أجبرنا على أن نعيش هذا المعنى، ونطلق لخيالنا العنان لنفهم ونعي وندرك المعاني التي تتفجر من قلوب المسلمين في المأساة التي نعيشها.

لذلك يوحدنا الزلزال عندما فرض علينا أن نعيد التفكير في أهداف حياتنا، فدماء الأتراك اختلطت بدماء العرب السوريين في المباني المنهارة، وتحت الأنقاض التقت الأرواح قبل أن تصعد إلى بارئها، ووقف التركي والعربي يبحثان عن أحبابهما تحت المباني الجميلة المنهارة، ويعملان بكل شجاعة تحت الثلج لإنقاذ المصابين، ولم يدر بخلد أحد وهو يحمل طفلا أنقذه: هل هذا الطفل تركي أم عربي!

 

حرر مشاعرك من الأسر!

تلك لحظة يمكن أن تحرر فيها مشاعرك من أسر الواقع وقيود العقل والعلم والمنطق والفلسفة لتكتشف معنى الحياة، وتستعيد معنى إنسانيتك، ولا بأس من أن تطلق لدموعك العنان، وأن يعبر حزنك النبيل عن حبك لإخوانك الأتراك والسوريين، فإن لم تكن قادرا على أن تصل إليهم لتمد يدك لمساعدتهم، فأنت قادر على التعبير عن الحب والتعاطف والإصرار على الكفاح لتحقيق وحدة الإسلام، وأن تلجأ إلى الله؛ فالقلب يتعلق بالأمل والرجاء في الله وحده.

 

تواضع لتستعيد إنسانيتك!

الزلزال يوضح لك أن الإنسان ضعيف مهما امتلك من قوة، وأنه يجب أن يتواضع أمام عظمة الله وقوته وحكمته، وأن الإنسان يعيش حياته بقدر الله، ويموت عندما يأتي الأجل الذي حدده الله له.

لذلك يجب أن تفهم حدود عقلك، فهناك الكثير من الآفاق التي لا نستطيع أن نصل إليها بالعقل وحده.. لذلك لكي تسترد إنسانيتك يجب أن تتواضع أمام قدرة الله المطلقة وقوته.

الزلزال يعلمنا كيف نتوجه إلى الله بقلوبنا، وأن نتعلق بالرجاء في رحمته، وأن نسلم أمرنا له، وأن نحرر أنفسنا من الخوف إلا منه وحده.

الموت أمامك.. تلك هي الحقيقة التي ينتظرها كل إنسان، وهي ستأتي حتما، فتواضع لله، فما الحياة سوى اختبار وابتلاء، ويمكن أن يكون هذا الابتلاء دليلا على حب الله لعباده، فيصطفي منهم الشهداء الذين تضيء دماؤهم ما بين السماء والأرض.

 

أنت نجوت.. ولكن!

يمكنك أن تطلق لخيالك العنان، فتتصور أنك تقيم في بناء جميل، وفجأة ينهار عليك، لكنك نجوت بفضل الله، فعليك أن تستحضر رحمة الله، وتطور ثقافة اللجوء إلى الله والاستعانة به، والشعور بالعبودية له وحده، والتقرب إلى الله بالعمل على إعانة إخوانك في مصيبتهم، وإنقاذ المصابين، وإعانة المحتاجين، والشعور بحبهم والمسؤولية عنهم.

يمكنك الآن أن تحرر مشاعرك، فتسجد لخالقك الذي وهبك الحياة، وتعبر عن حبك لإخوانك، فتدعو الله أن يتقبل شهداءهم، ويدخلهم الجنة بفضله وكرمه، وأن يمن بالشفاء على المصابين، وأن يحمي بلاد الإسلام من الزلازل والكوارث، وأن يوحد أمة الإسلام، ويعيد للمسلمين إيمانهم بالانتماء إلى خير أمة أخرجت للناس.

وفي المصائب والكوارث تظهر معادن الرجال، وأصالة القيادة، ومشاعر الأخوة والحب والتعاطف.

إن أهم توابع الزلزال أن نطلق لقلوبنا العنان لتعبر عن الحب لإخواننا الأتراك والسوريين، وعن أشواقنا للوحدة والحضارة الإسلامية.. وفي ضوء دماء شهدائنا نكتشف معاني جديدة لحياتنا أهمها أن قلوبنا تتعلق بالأمل في الله وحده!