للثورة المتكاملة ظرفاها الاجتماعي والسياسي، إذا توافق الظرفان تكون نسب نجاح سعي الشعوب إلى التغيير مرتفعة، أما حين يسبق أحدهما الآخر تنخفض نسبة الوصول إلى الهدف المنشود.

يبدو أن نصيب مصر من الظرف المتكامل للثورة والتغيير شحيح في تاريخها، لعل ما حدث في بداية القرن التاسع عشر حينما استطاعت قوى التغيير بعد أربع سنوات من خروج الحملة الفرنسية أن تصل إلى قمة نجاحها بخلع الوالي العثماني، ورغم التوافق العام بين تلك القوى فإنها فشلت في اختيار قائد لها يتولى الحكم، فكان محمد علي الجندي الألباني هو خيار المصريين.

بعيدا عن تقييم تجربة الوالي في الحكم، وتخلصه مِن كل مَن ساعد في توليه حكم مصر، إلا أن سؤالا يلح على الذهن: لماذا لم نختر قائدا للثورة ممن شاركوا فيها؟

هذا السؤال هو مفتاح السر في ما حدث في يناير 2011، حينما سقطت السلطة التي شاخت على مقاعدها -وفق تعبير الصحفي المصري محمد حسنين هيكل- صبيحة يوم 12 فبراير 2011، لم تجد في الثوار أو قادة الحراك من يستطيع أن يتولى مسؤوليتها، فقد كان الجميع غير مستعدين.

إن شئت الدقة، لم يكن أحد يتوقع الوصول إلى هذه اللحظة، فطموحات من كانوا في طليعة المشهد الاجتماعي والثوري الهائل كانت أقل كثيرا مما حدث بعد تنحي مبارك عن الحكم.

 

الخلاص الكامل

قلة من الشباب والثوار لم تسمع أصواتهم نادوا بالخلاص الكامل من النظام، وتشكيل قيادة مدنية تتولى الفترة الانتقالية، لكن لا أحد كان على استعداد لذلك أو لديه هذا الطموح.

ربما كانت لديهم أطماع، قادة يفتقدون أقل قدر من الخيال أو الخطط لما بعد سقوط نظام عاش لمدة 15 يوما وليلة تحت ضغظ هتاف “الشعب يريد إسقاط النظام”، ونخبة طوال هذه الفترة تبحث عن قيادة غيرهم تقود ثورتهم أو بديل يتحمل المسؤولية.

الغريب أنك إذا سألت أحدهم: ماذا بعد إسقاط النظام؟ فلن تجد إجابة بل جملة ذات سقف منخفض “بس يسقط النظام” ثم ماذا بعد؟ لا رد، هذا السؤال لم تجد له إجابة حتى لدى من ثار على فساد مؤسسة صغيرة أثناء الثورة. أما أسوأ الجمل فكانت “يجيبوا حد تاني”، يصيبك الجنون، من سيأتي بهذا الثاني؟ إنها كارثة الموعد الثالث لمصر مع يناير، الموعد الثالث غير المكتمل لمصر مع شهرها المفضل للانتفاضة والثورة.

 

التوافق الاجتماعي والخلل السياسي

كانت آبار الغضب على مبارك بعد أن ظل جاثما على أنفاس المصريين 30 عاما قد بدأت تنفجر، خاصة مع توغل أجهزة الشرطة في التسلط على الشعب، وازدياد نفوذ شلة الوريث جمال مبارك.

لقد اعتبر هؤلاء مصر ممتلكات خاصة بهم، وزّعوا ثرواتها كما يحلو لهم، وللتاريخ لم يكن هؤلاء سوى أكثر جشعا من الشلة السابقة، صفوت الشريف وكمال الشاذلي وفتحي سرور وغيرهم، وكانت شلة جمال أكثر تسلطا وعنفا في التعامل مع الساسة والشعب، وبدا أن هناك في مؤسسات القوة من هو ضد نفوذ الشلة، فكان أن افسح المجال للتعبير عن الغضب الكامن في الصدور.

كما أفسح المجال لنخبة كانت تجد في تولي مبارك الصغير قتلا لسقف طموحها (المحدود)، فكانت دعوات التظاهر والصراخ التي بدأت ظهيرة اليوم المشهود، والتي انتهت بسقوط مبارك وشلته التي شاخت على الكراسي، وجمال وشلته التي قتلت يناير طموحها في السلطة.

لكنْ لم يسقط النظام ومؤسساته التي تحكم حتى الآن رغم مرور 12 عاما على الثورة الأهم في العصر الحديث للمصريين، فقد قدّم الشعب المصري نموذجا فريدا لشعب يثور ضد فاسديه ونظامه، ولكن -كالعادة- كان طموح الشعب وتضحياته أعلى من كل النخب التي صعد بها إلى قمة الهرم الثوري، فهووا به إلى قاع الأحلام وقاع الدنيا.

نخبة قادها الطمع إلى تبديد أهم لحظات التاريخ الحديث، لم يرسموا خطة انتقالية، غادروا الساحة مبكرا جدا، وتركوا الشباب لمدة عام ونصف في مواجهة المجلس الذي كلفه مبارك المخلوع بإدارة شؤون البلاد!!!!! علامات تعجّب كثيرة على موقف مَن كنا نظنهم قادة للثورة وقبلوا ذلك.

 

الوقوع في الفخ

لم تتواعد “مصر يناير” وتكتمل بهجتها، فما إن تبدأ البهجة وملامح الانتصار حتى يتم كسر حلمها، في أحيان كنت أظن أننا جميعا وقعنا في فخ تم ترتيبه بعناية شديدة للخلاص من جثة هامدة (مبارك) وشلة تتمتع برعونة عالية (شلة جمال مبارك) لنقع في فخ استكمال المخطط السائد في المنطقة العربية واستكمال المشروع الصهيوني.

هل هذا يعني أن الثورة كانت غير حقيقية؟ قطعا لا، جازمة حاسمة، لكنه ببساطة يعني أننا لم نكن على مستواها ولا عظمتها، وقعت النخبة في شر أطماعها وتم التلاعب بها على كل المستويات، لم يكن هناك فريق ليس لديه طموح، وبدأت الصراعات مبكرا جدا بعد أن سلّموا للعسكر زمام الأمور وقنعوا بالخروج المبكر.

ظني أيضا أن لحظة تنحي مبارك كانت آخر لحظات الثورة المنقوصة، ففي تلك اللحظة تبددت اللُّحمة والجماعية وحلت مكانها الفُرقة والأطماع السياسية، هل اجتمع قادة التيارات السياسية بعد ذلك اليوم؟ إجابتي من خلال عام ونصف في قلب ميدان التحرير، لا قاطعة أيضا، فقد بدا كل فريق يبحث عن الغنائم في قلب المعركة (الثورة) فخسروها خسارة فادحة، وعندما كانت الإفاقة كان المنتصر يضحك بقهقهة عالية على الجميع.

مَن كسب المعركة كان لديه مخطط كامل لما يحدث، يلاعب الجميع على رقعة شطرنج هو صانعها ومحركها، لقد وضع الجميع تحت بصره، بل أصبحوا من عساكره الذين يلعب بهم على رقعة اللعبة، غازلهم فكانوا يتحركون بتسريباته إليهم، وللأسف وقعنا جميعا في الفخ، لا فرق بين مبكر ومتأخر.

 

هل انتهت اللعبة “كِش ملك”؟

يظن الجميع أن اللعبة قد انتهت، فــ 12 عاما كفيلة بدفن الميت بل تحلله، تلك نظرية الأجساد وليست نظرية الثورة، نعم نبدو في لحظة نفتقد فيها نخبة سياسية، طلائع الثورة في يناير أصابها الإحباط والاكتئاب، أغلب الثوار إما في السجون أو خرجوا محبطين، مجتمع يفتقد التنفس والتعبير عن أحواله.

خيّم الخوف على الجميع، نتحسس حروف الكتابة والكلام طوال الوقت، لكن هذا لا يعني أن الفكرة ماتت، فالشعوب لا تموت حتى وإن صمتت، والأفكار التي طارت في يناير ما زالت حرة لا يحدّها مكان ولا سقف، لذا لا نستبعد موعدا جديدا لمصر مع يناير أو مارس أو يوليو.

إذا كان يناير 2011 هو موعد مصر الثالث مع الثورة، وكانت ثورة منقوصة أو تم التفريط فيها، فالمؤكد أن مصر ستكون على موعد مع ثورة مكتملة، فكل قواعد التاريخ تؤكد استحالة استمرار الحال كما هي الآن، ففي نهاية اللعبة قد يكون لأقل لاعب في الرقعة دور ليقول للجميع “كِش ملك.. مات الملك”.