علي أبو هميلة:

 

تواعدت مصر مع يناير مرات عديدة في عصرها الحديث، حاولت أن تعيد بعضًا من بهائها المفقود في كل موعد من مواعيدها مع شهرها المفضل للانتفاضة والثورة، وبقدر ما كان يناير سخيًا في عطائه النبيل لوطن يدرك قيمته بحجم مصر بقدر ما كانت مصر يناير دائمًا في أبهى صورة وهي تذهب إلى مواعيدها الينايرية.

يجيء يناير في موعده السنوي هذا العام ومصر تبحث عن نفسها ولنفسها عن موعد تستطيع فيه أن تبرز زينتها المخفية، يجيء ومصر تعاني أزمة اقتصادية كبيرة، تعاني عملتها المحلية من انهيار شديد، تضخم ارتفع بشكل غير مسبوق، حجم ديون غير مسبوق ويتزايد.

غياب تام للحياة السياسية التي أصابتها السكتة، ساحة تخلو من إعلام وحركة فكرية، فهل تواعد مصر يناير جديدًا، أم للتاريخ موعد آخر؟ وكما يقول شاعر الأغنية والعامية عبد الرحيم منصور “مواعيد مواعيد.. كله بميعاد.. فرقتنا موت ولقانا ميلاد”، ترى متى يكون الميلاد؟

كان موعد يناير والمصريين الأول في يناير 1972، فقد عدّى النهار على مصر في يونيو 1967، وجاءت المغربية وطال ليل الهزيمة أكثر مما تحتمل مصر، نعم لم تستسلم ولم تسلم للهزيمة، وخاضت حربًا بدأت في أول يوليو من العام نفسه ـ الاستنزاف-، ولكن ظل الاحتلال لسيناء والأراضي العربية، مات جمال عبد الناصر، جاءت أعوام الضباب، وعد أنور السادات بالحرب في عام 71، 72، ولكن لم يحدث وثارت مصر متمثلة في شبابها في يناير 1972.

احتل الشباب ميدان التحرير واعتصموا حول الكعكة الحجرية في قلب الميدان، وقد صور الشاعر العربي الكبير أمل دنقل ذلك في قصيدته المسماة الكعكة الحجرية:

دقّتِ الساعةُ القاسية.. كان مذياعُ مقهىً يُذيع أحاديثَه

البالية

عن دُعاةِ الشَّغَبْ.. وهمُ يستديرونَ،

يشتعلون على الكعكة الحجرّية

حول

النُّصُبْ

شمعدانَ غضبْ.. يتوهّجُ في الليلِ..

والصوتُ يكتسح العتمةَ الباقية

يتغنّى لليلةِ ميلادِ مصرَ الجديدة!

الأديب والروائي المصري بهاء طاهر روى في عمله الأدبي الفريد شرق النخيل -لو نموت معًا- يوميات الاعتصام في الميدان في تلك الأيام الينايرية، ورواية شرق النخيل الصادرة في عام 1985، واحد من أروع روايات بهاء طاهر الذي قدّم للمكتبة العربية الكثير من الأعمال الأدبية والروائية مثل خالتي صفية والدير، الحب في المنفى، واحة الغروب، أنا الملك جئت، وقالت ضحى، وهذه الرواية الثانية التي جاء فيها حكي طاهر عن انتفاضة يناير 72.

يقول بهاء طاهر على لسان أحد أبطال شرق النخيل العمل الروائي الأول له “وحتى لو فشل هذا الاعتصام فسيكون غيره غدًا أو بعد غد إلى أن يصبح الاعتصام مصر كلها فتزحف للقناة وتعبر. سيحدث هذا صدقني، وسيحدث أكثر”، ثم اتجهنا نحو المجموعة الرئيسة التي تحيط بقاعدة التمثال. كانوا يكررون هتافًا واحدًا منغمًا “اصحي يا مصر.. اصحي يا مصر”.

وصلت رسالة مصر السابقة للساسة، لكن التاريخ كان على موعد آخر لمصر، فقد دخلت مصر حربها للتحرير في أكتوبر 1973، قاتل المصريون ببسالة كعادتهم وأظهروا ما كان يختبئ داخل سكونهم الذي يبدو للناظرين، لكن أصحاب القرار كان لهم رأي غير بطولة المصريين، فقد جاء العام الثاني للنصر بالانفتاح الاقتصادي، وبدأت معاناة مصر التي تصيبها بعد كل انتفاضة في يناير.

بدأ عصر جديد لمصر تحولت فيه من البناء إلى الاستهلاك، دخلت إلى عالم السلع الاستفزازية، توارت قيم العلم والإنتاج والعمل والتصنيع، إلى عالم بدأ باستيراد كل شيء حتى وصلنا إلى بيع كل شيء حتى قمنا بعرض القناة للبيع، وتأجير حديقة الحيوان.

كان يناير 1977، موعدًا جديدًا للمصريين للانتفاض والثورة ضد نتائج سياسات الانفتاح والتحول الاقتصادي التي شهدته مصر نتيجة توجهها إلى النموذج الغربي، وإيمان رئيسها أن 99% من أوراق اللعبة العالمية في يد أمريكا.

بدأ عصر رفع الدعم عن السلع الأساسية للمصريين، وصل بنا الآن إلى بيع السلع لهم بسعرها العالمي، بل وصل إلى البيع للخارج بأسعار أقل من البيع للمصريين.

صدرت قرارات الرئيس المصري أنور السادات عشية يوم 16 يناير 77 بزيادة أسعار بعض السلع الرئيسة، لتصحو مصر على انتفاضة شعبية امتدت من شمالها في الإسكندرية إلى الجنوب في أسوان، وبدا خلال الأيام الثلاثة التالية أن مصر في طريقها إلى موعد جديد ربما يحمل لها تحقيق أحلام يناير الدائمة، سافر السادات إلى أسوان متحاشيًا الغضب الشعبي الممتد.

كالعادة مع استمرار انتفاضة المصريين بدأت عمليات اعتقال واسعة لكل النشطاء من الجامعة واليساريين الذين تم اتهامهم بالشغب والفوضى، وكان السادات قد أطلق عليهم “شوية العيال الشيوعيون”، وسمى ما حدث “انتفاضة الحرامية”.

كان شاعر العامية أحمد فؤاد نجم قد كتب قصيدته ذائعة الصيت “كل ما تهل البشاير” عن يناير أثناء اعتقاله في سجن القلعة ضمن من تم اعتقالهم حينذاك، ولحنها وغناها الشيخ إمام عيسى مع المعتقلين:

كل عالم في بلدنا كل برج وكل مادنة

كل صاحب من صحابنا كل عيل من ولادنا

حد فيهم شاف علامة من علامات القيامة

قبل ما تهل البشاير من يناير

لما قامت مصر قومة بعد ما ظنوها نومة

تلعن الجوع والمذلة والمظالم والحكومة.

دائمًا ما يأتي يناير بأحلام عريضة، ولكن سرعان ما تتناقص، وهناك من يقف خلف عدم استكمالها، فهل هو النفس القصير الذي يقال إن المصريين مرضى به؟ هل افتقاد القيادة الحقيقة لكل انتفاضة؟ ربما عشوائية الانتفاضة أو نقصانها الخطة الكاملة، لذا كان الموعد الثاني لمصر مع شهرها المفضل موعدًا لم يكتمل.

تم القبض على قادة الانتفاضة، تراجعت الحكومة مؤقتًا عن قراراتها، نعم حكم بالبراءة على الذين تم حبسهم ومحاكمتهم بحكم تاريخي لقاضي سيظل اسمه ناصعًا في تاريخ القضاء المصري هو المستشار حكيم منير صليب، ومعه المستشاران علي عبد الحكيم عمارة، وأحمد محمد بكار، ولكن.

خرجت مصر للمرة الثانية في يناير شبه منكسرة، تراجع النظام عن الأسعار، لكنه دخل إلى عش الدبابير وأدخل مصر والعالم العربي كله إلى متاهة الصهاينة، فلا تزال أوراق اللعبة الأمريكية بكيسنجرها وكارترها مسيطرة حسب رؤية الرئيس، فلم يجد أنور السادات بعد يناير إلا الذهاب إلى تل أبيب ليفتح بوابات الأمة العربية على مصرعيها أمام الكيان الصهيوني ليعبث في كل الأرض كما يحلو له.

هكذا جاء يناير الثاني والذي غنّى له أحمد فؤاد نجم ومعتقلوه “كل ما تهل البشاير من يناير كل عام.. يدخل النور الزنازين يطرد الخوف والظلام”، ليعقبه نكسة كبيرة لا تزال جراحها تنزف في القدس وغزة والقاهرة والبحرين والأردن واليمن.

لكن لا تزال مصر تواعد يناير على أمل النجاة في المرة الرابعة من المواعيد، أما المرة الثالثة فهذا موضوع المقال القادم إنه الموعد الأكبر والأهم 25 يناير الثورة التي لم تكتمل.