لقد قامت السماوات والأرض على القسط، واستقام أمر الدنيا بالعدل، لذا فإن الظلم ظلمات في الدنيا والآخرة.

يخطىء كثير من الناس – وربما بعض الدعاة- إذ لا يلتفتون إلى هذه القاعدة الجليلة عند حكمهم على الآخرين، فيميلون كل الميل إلى فئة من الناس، ويرفعونها إلى درجة ربما تعلو درجة الملائكة المقربين، في حين أنهم يجورون في حكمهم على مخالفيهم، فيهبطون بهم إلى درجة دون درجة الأبالسة الشياطين، وربما يخرجونهم من دائرة الإسلام.

فلم تبقَ شبهة إلا ألصقوها بمنهج مخالفيهم، ولا تهمة إلا رموا بها رموزهم وقياداتهم، ولا منقصة إلا وصفوا بها دعوتهم.

إنهم يرون البياض كل البياض والنقاء كل النقاء في ذواتهم وفي أتباعهم ومعتنقي فكرتهم، ويرون السواد كل السواد والفساد كل الفساد في مخالفيهم، وصدق الشاعر حينما قال:

ولست براد عيب ذي الود كله ... ولا بعض ما فيه إذا كنـت راضيا

فعين الرضا عن كل عيب كليلة ... كما أن عين السخط تبدي المساويا

إن التهمة قبل أن تلصقها بشخص، والشبهة قبل أن ترمي بها منهجًا أو دعوة فإنه ينبغي أن تعرضها على هذه القاعدة، حتى لا تكون ظالمًا فتبوء بإثم من ظلمتهم واعتديت عليهم.

إن الله تعالى يطالب المسلمين بأن يكونوا منصفين مقسطين، يقول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون". (المائدة: 8)

ويقول الله عز وجل: "ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين". (هود: 85)

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع" (منهاج السنة 4/337).

والمقصود بالعدل في وصف الآخرين: هو العدل في ذكرى المساوىء والمحاسن، والموازنة بينهما، فإذا حكمت على شخص أو فكرة فاذكر محاسنها واذكر مساوئها.

وإنك لتجد كثيرًا من يذم غيره بذكر مساوئه ويغض الطرف عن محاسنه، بسبب الحقد والبغضاء، أو لتنافس مذموم بينهما، وهذا غالبًا ما يقع بين الأقران.

ولكن المنصفين هم الذين يذكرون المرء بما فيه من خير أو شر ولا يبخسونه حقه، ولو كان الموصوف مخالفًا لهم في الدين والاعتقاد أو في المذهب والانتماء.

لقد أبدع الإمام الذهبي (رحمه الله) حينما حرص كل الحرص على الإنصاف والعدل وهو يترجم للنبلاء والأعلام في كتابه القيم: "سير أعلام النبلاء"، فقد ترجم لعدد ممن اشتهر بين الناس وكانوا من أهل البدع أو الفسق أو الإلحاد، فلم يبخسهم حقهم من صفات جيدة، بل أنصفهم بذكر ما لهم وما عليهم، ومن أمثلة ذلك ما يلي:

  • قال عن عبد الوارث بن سعيد: "وكان عالمًا مجودًا، ومن أهل الدين والورع، إلا أنه قدري متبدع" (السير: 8/301).
  • وقال عن الحكم بن هشام: "وكان من جبابرة الملوك وفسّاقهم ومتمرديهم، وكان فارسًا شجاعًا، فاتكًا ذا دهاء وعتو وظلم، تملك سبعًا وعشرين سنة" (السير: 8/254).
  • وقال عن الواقدي: "والواقدي وإن كان لا نزاع في ضعفه، فهو صادق اللسان كبير القدر" (السير: 7/142).
  • وقال عن المأمون الذي تبنّى فتنة القول بخلق القرآن وامتحن علماء أهل السنة بذلك: "وكان من أكثر رجال بني العباس حزمًا وعزمًا، ورأيًا وعقلًا، وهيبة وحلمًا، ومحاسنه كثيرة في الجملة" (السير: 10/273).
  • وقال في ترجمة الجاحظ الأديب المعتزلي: "العلامة المتبحر ذو الفنون.. وكان أحد الأذكياء، وكان ماجنًا قليل الدين، له نوادر" (السير: 11/256).
  • وقال عن قرة بن ثابت: "الصابىء، الشقي، الحراني، فيلسوف عصره، وكان يتوقد ذكاء" (السير: 13/285).
  • وقال في ترجمة أحمد السرخسي: "الفيلسوف البارع، ذو التصانيف، أبو العباس أحمد بن الطيب.. من بحور العلم الذي لا ينفع" (السير: 13/448).
  • وقال في ترجمة الخياط المعتزلي: "شيخ المعتزلة البغداديين، له ذكاء مفرط، والتصانيف المهذبة.. وكان من بحور العلم، له جلالة عجيبة عند المعتزلة" (السير: 14/220).
  • وقال في ترجمة الجبائي: "وكان أبو علي – على بدعته – متوسعًا في العلم، سيّال الذهن، وهو الذي ذلّل الكلام وسهّله، ويسّر ما صعب منه" (السير \: 14/183).
  • وقال في ترجمة ابن العميد: "كان عجبًا في الترسل والإنشاء والبلاغة، يضرب له المثل، ويقال له الجاحظ الثاني، وقيل: بدأت الكتابة بعبد الحميد وخُتمت بابن العميد.. وكان مع سعة فنونه لا يدري ما الشرع، وكان متفلسفًا، متهمًا بمذهب الأوائل" ( السير: 16/137).
  • وقال في ترجمة الشريف المرتضى: "وكان من الأذكياء الأولين، المتبحرين في الكلام والاعتزال والأدب والشعر، لكنه إمامي جلد، نسأل الله العفو" (السير: 17/589).

وللإمام ابن تيمية كلام نفيس في هذا الباب حيث يقول: "وإنه كثيرًا من ما يجتمع في الفعل الواحد، أو في الشخص الواحد الأمران: فالذم والنهي والعقاب قد يتوجه إلى ما تضمنه أحدهما، فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر، وقد يمدح الرجل بترك بعض السيئات البدعية الفجورية، لكن قد يسلب مع ذلك ما حمد به غيره على فعل بعض الحسنات السنية البرية، فهذه طريق الموازنة والمعادلة، ومن سلكه كان قائمًا بالقسط الذي أنزل الله له الكتاب والميزان" (مجموع الفتاوى: 10 / 366).

ويقول كذلك: "ولا منافاة بين أن يكون الشخص الواحد يرحم ويحب من وجه، ويعذب ويبغض من وجه آخر، ويثاب من وجه، ويعاقب من وجه، فإن مذهب أهل السنة والجماعة أن الشخص الواحد يجتمع فيه الأمران، خلافًا لما يزعمه الخوارج ونحوهم من المعتزلة، فإن عندهم أن من استحق العذاب من أهل القبلة لا يخرج من النار، فأوجبوا خلود أهل التوحيد، وقالوا: من استحق العذاب لا يستحق الثواب" (مجموع الفتاوى: 10 / 366).

ويقول أيضًا في كتاب "منهاج السنة النبوية " (4/543): "ومن سلك طريق الاعتدال، عظّم من يستحق التعظيم، وأحبّه وولاه، وأعطى الحق حقه، فيعظِّم الحق، ويرحم الخلق، وأن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيحمد ويذم، ويثاب ويعاقب، ويحب من وجه، ويبغض من وجه، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، خلافًا للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم".

ويقول الإمام شمس الدين الذهبي رحمه الله تعالى: "قلت: الكتابة مُسَلَّمَة لابن البواب، كما أن أقرأ الأمة أبيّ بن كعب، وأقضاهم علي، وأفرضهم زيد، وأعلمهم بالتأويل ابن عباس، وأمينهم أبو عبيدة، وعابرهم محمد بن سيرين، وأصدقهم لهجة أبو ذر، وفقيه الأمة مالك، ومحدثهم أحمد بن حنبل، ولغويهم أبو عبيدة، وشاعرهم أبو تمام، وعابدهم الفضيل، وحافظهم سفيان الثوري، وأخباريهم الواقدي، وزاهدهم معروف الكرخي، ونحويهم سيبويه، وعروضيهم الخليل، وخطيبهم ابن نباته، ومنشئهم القاضي الفاضل، وفارسهم خالد بن الوليد رحمه الله" (السير: 17 / 319).

إنه العدل ولا شيء أجمل من العدل، وإنه الإنصاف والقسط الذي قامت به السماوات والأرض، فليحذر الذين يمارسون الظلم بأقوالهم أو أفعالهم، من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون، وليعلموا أن للظالم عاقبة وخيمة، وله يوم يندم فيه، فضلًا عما يبتليه الله في دنياه قبل آخرته.

وصدق أحمد شوقي حينما قال:

وقـفَ الهُـدهُدُ في با     بِ سُـليمـانَ بـذِلَّهْ

قال: يا مولايَ، كن لي        عِيشَتي صارت  مُمِـلَّه

مـتُّ مـن حَبَّةِ  بُـرٍّ      أحدَثتْ  في الصدر غُلَّه

لا  مِـياهُ النَّيلِ تُرْويها   ولا أَمـواهُ  دِجْـلـه

وإذا دامـتْ  قـليلًا       قتلْتـني  شرَّ  قِتْـلـَه

فأشار  السـيِّدُ  العـا     لي إلى مَـن كان  حوْلَه

قـد جَنَى الهدهُدُ  ذنْبًا   وأتـى  في  اللؤم  فَعْلَه

تلك نارُ الإثمِ في الصَّدْ        رِ، وذي الشكوىَ تَعِلَّه

مــا أرى الحـبَّة إلا      سُـرِقت من بيتِ  نمله

إن للـظـالم  صَـدْرًا      يشتكي من غيـر عِله!