حاول محافظ البنك المركزي حسن عبد الله بعد توليه منصبه في 18 أغسطس الماضي أن تكون له سياسته النقدية الخاصة، فقام بتثبيت سعر الفائدة خلال أغسطس وسبتمبر، رغم استمرار الفدرالي الأميركي في الرفع الملحوظ لسعر الفائدة وما تبعه من رفع للفائدة بمنطقة اليورو والمملكة المتحدة وكندا وغيرها من الدول الأجنبية والعربية.

حاول اتخاذ طرق بديلة لرفع الفائدة كان أبرزها خفض النقد المتداول خارج خزائن البنك المركزي خلال أغسطس وسبتمبر، خلافا لسياسة المحافظ السابق الذي توسع بإصدار النقد خلال الشهور السابقة من العام الحالي، كما قام برفع نسبة الاحتياطي الإلزامي الذي تلتزم البنوك من خلاله بإيداع نسبة من ودائعها بالجنيه بالبنك المركزي بلا فائدة من 14% إلى 18% في سبتمبر الماضي.

أعلن صراحة في تبريره لعدم رفع الفائدة خلال بيان لجنة السياسة النقدية في 22 سبتمبر التي ثبتت سعر الفائدة، أن الارتفاع في المعدل السنوي للتضخم منذ بداية العام يعود بشكل أساسي إلى صدمات من جانب العرض، وعلى الأخص ارتفاع الأسعار العالمية للسلع.

لكن ضغوط صندوق النقد الدولي على مصر التي تتضمن المطالبة برفع سعر الفائدة وبمعدلات كبيرة كشرط لإعلان الموافقة على إقراض مصر أجبرت المحافظ على تغيير مساره بالقيام برفع سعر الفائدة في 27 أكتوبر بنسبة 2%، تزامنا مع خفض قيمة الجنيه أمام الدولار بنسبة 16%.

 

تكرار سيناريو عام 1991 و2016

برر المحافظ رفع سعر الفائدة حينذاك بأنه يتم بهدف احتواء الضغوط التضخمية الناجمة من جانب الطلب وارتفاع معدل نمو السيولة المحلية والتوقعات التضخمية والآثار الثانوية لصدمات العرض، مما دفع الصندوق للإعلان عن اتفاقه على إقراض مصر على مستوى الخبراء في اليوم نفسه وبعد موافقة مجلس مديري الصندوق على القرض البالغ 3 مليارات دولار في 16 من الشهر الحالي، مطالبا خلال موافقته برفع سعر الفائدة ضمن مطالب أخرى قام المحافظ برفع الفائدة بنسبة 3% بعد أقل من أسبوع من موافقة الصندوق.

هكذا تكرر الإدارة المصرية المسلك الذي انتهجته عام 1991 برفع الفائدة استجابة لطلب الصندوق في عهد المحافظ صلاح حامد عند عقد اتفاق إقراض لمصر، وتكرر ذلك بعهد المحافظ السابق طارق عامر بنسبة 3% أيضا في نوفمبر 2016 عند إقراض الصندوق لمصر، رغم إدراك المحافظ الحالي للمضار المتعددة التي قد يسببها رفع الفائدة للنشاط الاقتصادي، والتي لمسها عمليا خلال عمله الطويل بالمجال المصرفي.

اتجاه الإدارة المصرية لتنفيذ شروط الصندوق التي ثبت عمليا خلال السنوات الماضية أن مفعولها مؤقت، بدليل تكرار لجوء مصر للصندوق عقب كل اتفاق معه ببضعة سنوات، وضيعت فرصة سلوك نهج إصلاحي مصري بحل المشاكل الاقتصادية المزمنة والحالية بطريقة مختلفة، تتسق مع دفع النمو والاستثمار والتصنيع والتصدير والتشغيل وتقوية مركز الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية، وانتهجت مسلك رفع سعر الفائدة الذي يؤدي إلى نتائج عكسية لكل ما سبق ذكره من أهداف.

يؤدي رفع الفائدة بتلك المستويات المرتفعة الحالية والمصحوبة بمشكلات أخرى للمنتجين تخص نقص الدولار وصعوبة تدبير المواد الخام ومستلزمات الإنتاج وارتفاع تكلفة الطاقة والبيروقراطية ومزاحمة شركات الجيش بالنشاط الاقتصادي، إلى تراجع النشاط الصناعي والاستثماري والتصديري والتشغيلي، خاصة مع توقع استمرار البنك المركزي في رفع سعر الفائدة خلال العام المقبل، نظرا لتوقعه ارتفاع معدلات التضخم بالعام المقبل.

 

الركود بالأسواق يفند مزاعم الصندوق والمركزي

ما يؤكد من ناحية أخرى أن رفع الفائدة بالحالة المصرية سيؤدي إلى زيادة معدلات التضخم وليس إلى خفضه، كما يقول صندوق النقد والبنك المركزي، هو الركود بالأسواق، وهذا لسبب رئيسي وواضح أنه تضخم ناتج عن صدمات العرض وليس ناتجا عن الطلب كما قال المحافظ سابقا في بيانه في سبتمبر الماضي.

هذا تحديداً ما كانت وسائل الإعلام المحلية تردده نقلا عن مسؤولين حكوميين أن التضخم ناتج عن ارتفاع الأسعار العالمية وبعدها عن تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية، رغم وجود أسباب محلية أيضا للتضخم ذات تأثير كبير فإن تلك الأسباب سواء كانت العالمية أو المحلية تبرئ جانب الطلب من التسبب بالتضخم كما يقول البنك المركزي منذ أواخر أكتوبر الماضي وحتى الآن.

بزعمه أن سبب التضخم هو جانب الطلب المتمثل في زيادة إقبال المصريين على شراء السلع بمعدلات تفوق الكميات المنتجة منها، وأن رفع الفائدة من شأنه دفعهم للادخار والإقلال من الشراء، وهو زعم مغلوط حسب مؤشر مديري المشتريات الذي يشير لوجود ركود مستمر بالأسواق بلا انقطاع طوال العامين الماضيين، كما كان لهذا الركود الغلبة بالشهور السابقة لذلك.

مر المصريون بأزمات متكررة بداية بتداعيات كورونا وآثار ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء عالميا ومحليا بالعام الماضي ثم تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية، مما أدى إلى تراجع القوى الشرائية لغالب المصريين بشهادة التقارير الصادرة عن جهاز الإحصاء الحكومي، وبدليل تراجع مبيعات العديد من الشركات وتراجع إيرادات الموازنة العامة نتيجة لذلك، حسب تصريحات وزير المالية والبيانات المنشورة عن عدم تحقق مستهدفات الإيرادات بالموازنة العامة للدولة، كما تسببت في زيادة معدلات الفقر.

كانت تلك الأمور تستلزم التخفيف عن المنتجين وليس زيادة الأعباء عليهم من خلال استمرار رفع سعر الفائدة 4 مرات بالعام الحالي بما مجموعه 8% وإلغاء مبادرة تمويل الصناعة والزراعة والمقاولات والطاقة الجديدة الشهر الماضي التي كانت تمنح قروضا بنسبة أقل من السعر السائد بالسوق، وها نحن الآن نصل إلى معدل إقراض من البنك المركزي للبنوك يصل إلى 17.25%، ومن الطبيعي أن تضيف البنوك لذلك هامش ربح لها لن يقل عن 3% عند إقراضها للشركات، لنصل إلى نسبة 20% وأكثر لسعر الإقراض للشركات.

 

منافسة غير متكافئة للصادرات المصرية

وهي منافسة بين الشركات التي تعانى من ارتفاع سعر الدولار محليا بالعام الحالي بنسبة 57% حسب الأسعار الرسمية، والتي تزيد على ذلك حسب أسعار السوق الموازية، ليظل السؤال كيف تنافس تلك الشركات منتجات الدول الأخرى بالسوق المحلية أو بالأسواق الدولية، مع بلوغ فائدة الإقراض حاليا 1.9% بالدانمارك و2.6% بالسويد، و2.75% بدول اليورو، و5.5% بالفلبين و6.25% بإندونيسيا و7.75% برومانيا، وبدول أخرى عديدة تقل بها فائدة الإقراض عن مصر مثل التشيك وتركيا وجنوب أفريقيا وبيلاروسيا، وحتى سيريلانكا التي تبلغ نسبة الإقراض بها 15.5%.

يعرف من لهم صلة بالصناعة المصرية أن فائدة البنوك المرتفعة كانت سببا في 80% من حالات تعثر الشركات، ومن هنا نتوقع أن يتسبب الارتفاع الحالي للفائدة في تراجع القدرات الإنتاجية بالعديد من الشركات، بمختلف الأنشطة سواء الصناعات الغذائية أو الهندسية أو مواد البناء لما لها من تأثير على مجال العقار، والدوائية المقيدة بالأسعار الجبرية مما يدفعها للإقلال من إنتاج أصناف معينة.

ومع تراجع الإنتاج نتيجة تراجع المبيعات بسبب انخفاض القوة الشرائية سيتم الاستغناء عن جانب من العمالة ببعض الشركات مما يزيد من صفوف العاطلين، ومع نقص الإنتاج سيؤثر ذلك على الكميات المتاحة للتصدير، إلى جانب ارتفاع تكلفة إنتاجها وأثرها على تنافسيتها، كما يؤدي نقص الإنتاج المحلي لتعويضه بالاستيراد بما يزيد الضغط على سعر الصرف.

والأخطر من ذلك هو لجوء البعض إلى إيداع أموالهم بالبنوك والحصول على تلك الفوائد المرتفعة التي ليس عليها أية ضرائب، بدلا من الدخول في المجالات الإنتاجية والدخول في دوامة الحصول على التراخيص والأراضي والمرافق، والابتزاز من جانب مندوبي الجهات المحلية والرقابية لدفع إتاوات دورية لعدم تحرير مخالفات، والمنافسة غير المتكافئة مع جهات سيادية لا تدفع ضرائب ولا جمارك وتحظى بتوفير الأراضي بلا مقابل.

 

زيادة الدين الحكومي وعجز الموازنة

الحكومة نفسها ستتضرر من رفع الفائدة، حيث تمثل فائدة الدين الحكومي المُكون الأكبر بالإنفاق بالموازنة العامة بقيمة 690 مليار جنيه بموازنة العام المالي الحالي، وذكر وزير المالية عند عرض الموازنة بالبرلمان قبيل بداية العام المالي، أن زيادة سعر الفائدة بنسبة 1%، يزيد تكلفة فوائد الدين المحلي 28 مليار جنيه، وتلا حديث الوزير حتى الآن 3 زيادات للفائدة بإجمالي 7% أي أنه سيضاف 196 مليار جنيه لفائدة الدين بالموازنة التي كان من المفترض أن يبلغ العجز الكلي بها 558 مليار جنيه، مما يؤكد زيادة العجز عن ذلك.

ذكر وزير المالية أيضا في أغسطس الماضي أن كل زيادة في سعر صرف الدولار أمام الجنيه المصري بنحو جنيه مصري واحد، يزيد من قيمة الدين الخارجي الحكومي مقوما بالجنيه المصري بنحو 83 مليار جنيه، وها هو سعر الصرف يزيد منذ ذلك الحين وحتى الآن بنحو 5 جنيهات بالدولار الواحد بالأسعار الرسمية، وإذا أضيف لذلك عدم تحقق توقعات الموازنة التي توقعت سعر 80 دولارا لبرميل النفط و330 دولارا للقمح خلال العام المالي الحالي، وهو ما تم تجاوزه لسعر كل منهما مما زاد من قيمة الواردات منهما.

ما جرى مؤخرا من منح علاوة استثنائية بقيمة 300 جنيه شهريا للموظفين وأصحاب المعاشات لم تكن واردة عند إعداد الموازنة، كل ذلك سيؤدي إلى خفض الإنفاق الاستثماري بالموازنة والتأخير في دفع مستحقات الموردين للحكومة وإلى السعي للحصول على المزيد من الضرائب والرسوم مثلما تم تداوله من إدراج شريحة جديدة لضريبة الدخل بنسبة 27.5%.

هذا يعنى أن مضار ارتفاع الفائدة سيمتد أثرها إلى عموم المواطنين الذين سيتضررون من تأخر تنفيذ المشروعات الحكومية التعليمية والصحية والخاصة بالمرافق في أنحاء البلاد، إلى جانب أثر تأخر سداد مستحقات الموردين للحكومة على قطاعات المقاولات وغيرها بما لديها من عمالة.

حتى من يظنون أن هناك فئة رابحة من رفع الفائدة تتمثل في المودعين بالبنوك فإن تلك الفئة ستحصل على فائدة أقل من معدل التضخم، أي ستحصل على فائدة حقيقية سلبية.

هكذا يظل تحسين المناخ الاستثماري وتحفيز المنتجين وتشغيل الطاقات العاطلة هو السبيل لحل مشكلة التضخم من خلال زيادة المعروض من السلع والخدمات وحل مشكلة سعر صرف الدولار أيضا بزيادة الموارد الدولارية من الاستثمار الأجنبي والتصدير، بينما يتسبب رفع سعر الفائدة في زيادة التضخم والإضرار بالمنتجين والاستثمار وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي.