قطب العربي:


مبنى ماسبيرو على ضفاف نيل القاهرة ليس مجرد مبنى ضخم، أو ذي طابع معماري فريد بشكله نصف الدائري في طوابقه الأولى والتي يتوسطها برج شاهق تعلوه أجهزة الإرسال والاستقبال الضخمة، ولكنه أحد “ثكنات القوة الناعمة”، المصرية، كما أنه أحد علامات الهوية البصرية المصرية إلى جانب الأهرامات، والأزهر الشريف، وقلعة صلاح الدين، وغيرها من الرموز المعمارية، من هنا يكتسب الجدل حول بقاء “المبنى” أو هدمه أو استخدامه تجاريا أهمية كبيرة ليس لدى العاملين فيه فقط بل للنخب الثقافية والسياسية والإعلامية.. إلخ.


خلال الأيام الماضية تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي أخبارا عن بيع ماسبيرو تمهيدا لهدمه وإعادة بناء فندق ضخم مكانه، وقد نفت الهيئة الوطنية للإعلام وهي الجهة المشرفة على ماسبيرو هذا الخبر نفيا تاما، لكن نفيها لم يقطع الشكوك والتكهنات، ذلك أن هناك بالفعل ترتيبات لنقل ماسبيرو إلى العاصمة الإدارية الجديدة ضمن خطة أوسع لنقل كل الوزارات والهيئات المهمة لإعطاء ثقل لتلك العاصمة الجديدة، وتفريغ القاهرة القديمة منها، وكل ذلك ضمن ما يسمى الجمهورية الجديدة التي تعتمد بشكل أساسي على المباني الحديثة من الناحية العمرانية، وعلى القبضة الأمنية وإغلاق المجال العام من الناحية السياسية مهما كلف ذلك من ثمن ومن قروض دولية تجاوزت الـ 160 مليار دولار، أصبحت تمثل حملا ثقيلا على حاضر البلاد ومستقبلها.


مفخرة للعهد الناصري


ماسبيرو هو احد مفاخر الحقبة الناصرية، وقد تم تأسيسه في العام 1960 ليتم افتتاحه في ذكرى عيد ثورة 23 يوليو، ومنه انطلق أول بث تلفزيوني للمواطن المصري، وعلى مدار 6 عقود كان هذا المبنى بكل قنواته التي تجاوزت العشرين وشبكاته الإذاعية التي تجاوزت العشر بخلاف القطاعات الأخرى هو صوت الدولة المصرية وفقا لرؤية نظام يوليو الممتد منذ العام 1952 وحتى الآن مع استثناء سنة يتيمة لحكم الرئيس المدني محمد مرسي. وكان لماسبيرو إسهام كبير في تشكيل الوعي العام المصري وحتى العربي، من خلال بثه للرواية الرسمية للأحداث، ومن خلال مئات المسلسلات التلفزيونية التي جمعت الأسر المصرية والعربية، وكذا من خلال حفلات السمر والغناء التي كان ينظمها ويبثها، ومن خلال احتضانه لكبار ومشاهير الفن والطرب جنبا إلى جنب مع كبار قراء القرآن الكريم والمنشدين الدينيين، وبث صلوات الجمعة والفجر وكذا قداسات الأحد، ونقل الأعمال السينمائية مجانا إلى بيوت المشاهدين مباشرة.


ظل ماسبيرو قلب الإعلام المصري كنزا استراتيجيا، وجزءا أساسيا من أصول الأمن القومي، يحظى برعاية خاصة من نظم الحكم المتتالية (ناصر والسادات ومبارك) وحين جرت عمليات خصخصة واسعة في عهد مبارك كان الإعلام وفي القلب منه ماسبيرو بعيدا تماما عن تلك العملية، وكان ينظر إليه بحسبانه جيش يضاف إلى الجيشين الثاني والثالث الميدانيين، لا سبيل للحديث عن أي خصخصة ولو جزئية له.


ماسبيرو البديل


وحين أبدى السيسي إعجابه بإعلام ناصر في الستينات فقد نسي أو تناسى أن ماسبيرو هو قلب ذلك الإعلام، وبدلا من توجيه الحكومة لتطويره ،وتذليل الصعوبات أمامه ليتمكن من المنافسة؛ وأهم تلك الصعوبات غياب الرأي الآخر، فإنه عمد إلى تأسيس منظومته الإعلامية الجديدة التي تنسب له وليس لرؤساء سابقين عليه، ومن هنا جاءت فكرة تأسيس شركة إعلامية تابعة للدولة تطورت من إعلام المصريين إلى الشركة المتحدة لتضم تحت سقفها عشرات القنوات والإذاعات والصحف والمواقع الإلكترونية وشركات الإنتاج الدرامي والسينمائي، والدعاية والتسويق إلخ، بحيث أصبحنا أمام ماسبيرو جديد، ما يعني انعقاد العزم على التخلص من ماسبيرو القديم بكل رمزيته باعتباره رمزا للجمهورية القديمة، وكذا بسبب تراكم مديونياته التي جاوزت الأربعين مليار جنيه، والقابلة للزيادة مع تواصل الفشل وعدم القدرة على المنافسة.


نجاح ماسبيرو في فترة الستينيات وحتى مطلع الألفية الجديدة لم يكن بفضل قدراته التنافسية العالية، فلم يكن هناك منافسون له على الصعيد المحلي أو العربي، لكنه كان بفضل احتكاره للساحة الإعلامية، وبفضل الدعم الحكومي المتواصل له، وحين ظهر منافسون محليون (القنوات الخاصة) ومنافسون عرب ( قنوات عربية كبرى مثل الجزيرة وإم بي سي، ومحطات دولية ناطقة بالعربية مثل بي بي سي، ودويتش فيلله، وفرانس 24 فإنه عجز عن المنافسة بشكل واضح، وانصرف عنه الجمهور ومن ثم المعلنون، لتتراكم خسائره ومديونياته عاما بعد عام، وكجزء من حالة الفشل والفساد فقد تنازل ماسبيرو عن أصول تاريخية ( أفلام ومسلسلتا وتسجيلات واسطوانات قديمة تمثل جزءا من الذاكرة الوطنية) مقابل ثمن بخس دراهم معدودة.


رصاصة الرحمة أم الموت البطيء


لم يشأ النظام الحاكم إطلاق رصاصة الرحمة بشكل واضح على ماسبيرو، ولكنه تركه للموت البطيء، وقد انتبه أبناء ماسبيرو -وغالبيتهم من أكبر داعمي هذا النظام- إلى تلك الخطة فانتفضوا في سلسلة من الاحتجاجات دفاعا عن لقمة عيشهم بعد سلسلة من خفض المكافآت والبدلات التي كانوا يتقاضونها ويبنون عليها حياتهم، وكان الرد القمعي جاهزا إذ تم فصل البعض أو إحالتهم للتحقيق، وأخيرا اعتقال الرموز الصلبة لتلك الاحتجاجات (الدكتورة هالة فهمي- صفاء الكوربيجي نموذجا).


رغم أي مآخذ؛ يظل ماسبيرو جزءا من الذاكرة الوطنية، وجزءا من القوة الناعمة المصرية خاصة إذا أمكن تحويله إلى إعلام الخدمة العامة، أو إعلام الشعب وليس إعلام السلطة على طريقة “بي بي سي”، أو التلفزيون الألماني دويتش فيلله، وهذا لن يتحقق إلا في ظل حكم مدني ديمقراطي، وحتى ذلك الحين فإن من الممكن الإبقاء على بعض قنوات ماسبيرو الضرورية، والاستغناء عن الزوائد الكثيرة، وفي هذه الحالة سيمكن تفريغ جزء كبير من المبنى الضخم، وسيمكن استغلاله تجاريا، عبر تأجير عشرات أو حتى مئات المكاتب لوسائل إعلام عربية ودولية تتنافس للحصول على شرفة تطل على النيل، ويمكن سداد مديونية ماسبيرو أو جزء منها من عوائد ذلك التأجير، ولتنعم العاصمة الإدارية الجديدة بماسبيرو الجديد الممثل في الشركة المتحدة وقنواتها وإذاعاتها وصحفها ومواقعها وشركاتها.


نقلا عن : الجزيرة مباشر