ضمن سياسة شراء ولاء ضباط الجيش، بإغداق الامتيازات عليهم كي يستمر دعمهم، أصدر قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي قرارا بمنحهم درجات علمية تصدرها الجامعات المدنية، ليتساووا مع أقرانهم المدنيين إلى جانب رتبهم العسكرية.
القرار الغريب نشرته الجريدة الرسمية في عددها الصادر 5 يوليو 2022، ويعطي ضباط الجيش خريجي الكليات العسكرية، درجة الليسانس أو البكالوريوس التي تمنحها سائر الجامعات المدنية المصرية بجانب شهاداتهم العسكرية.
وجاء منح الضباط الذين يلتحقون عادة بالكليات العسكرية بتقدير منخفض في حدود "50 بالمئة"، أعلى درجات الجامعات المدنية تفوقًا دون دخولها، في توقيت يواجه فيه السيسي غضبًا شعبيًا متزايدًا بفعل الانهيار الاقتصادي وتزايد القمع السياسي.
كما أن الخطوة تعد أحدث حلقة من مسلسل إغراق العسكريين بمزايا مالية وأخرى تتعلق بالحصانة من محاكمتهم المتواصل منذ وصول السيسي إلى السلطة عقب انقلاب 2013.
تفاصيل القرار
وتؤكد الكلية الحربية في مصر عبر موقعها الرسمي على أن "الهدف الإستراتيجي" لها هو "إعداد وتأهيل الطلبة ليكونوا ضباطًا مقاتلين قادرين على قيادة فصائلهم وما يعادلها، والحفاظ على أعلى مستوى من الكفاءة القتالية لها في السلم والحرب".
إضافة إلى "مواكبة التطور السريع في مجال العلوم العسكرية"، لكن هذا التغيير في تدريسهم أو منحهم شهادات مدنية سياسية يتعارض مع هذا الهدف الإستراتيجي المعلن، ويعني "تسييس" الجيش، وفق مراقبين.
قرار السيسي "بشأن تحديد الدرجات العلمية التي تمنح لخريجي كليات الأكاديمية العسكرية المصرية"، نص على منح خريجي الكلية الحربية، والكلية البحرية درجة البكالوريوس في العلوم السياسية والاقتصاد والإحصاء.
وهي نفس درجة البكالوريوس الذي يكابد طلاب الثانوية العامة الصعاب لدخول "كلية الاقتصاد والعلوم السياسية" بجامعات مصر للحصول عليها، بأعلى الدرجات في امتحان الثانوية العامة بما لا يقل عن نسبة 95%.
وتضمن منح خريجي الكلية الجوية درجة البكالوريوس في تجارة إدارة الأعمال تخصص إدارة الطيران والمطارات، وكذا درجة بكالوريوس الحاسبات والمعلومات تخصص نظم معلومات الطيران، التي يتخصص فيها طلاب كليات الهندسة فقط.
أيضا منح السيسي خريجي كلية الدفاع الجوي، درجة البكالوريوس في هندسة الاتصالات والإلكترونيات والحاسب والنظم، والميكاترونكس والروبوتات، التي يحصل عليها طلاب كليات الهندسة والحاسبات فقط.
وسيطبق القرار على الطلاب الملتحقين الجدد بكليات الأكاديمية العسكرية المصرية، بدءًا من العام الدراسي 2022 -2023.
وجاء القرار بعد أيام من تسريبات وصلت لموقع "عربي21" الإلكتروني حول منح السيسي ضباط الجيش والمحالين على المعاش من العسكريين وعائلاتهم حصانة وامتيازات غير مسبوقة ومخالفة للدستور والقانون.
منها: "لا يحق لأي مؤسسة رقابية أو شرطة مدنية أو أي قضاء مدني التعارض (التعرض له بأي شكل من المضايقات) مع السادة الضباط والأفراد، ولا يخول لأي جهة حتى بالأجهزة الرقابية أو شرطة مدنية أو أي قضاء مدني مخالفة ذلك".
وأيضا: "لا يحق لأي مؤسسة رقابية أو شرطة مدنية أو أي قضاء مدني تفتيش ممتلكات السادة الضباط والأفراد، ولا يخول لأي جهة التصديق لهم بفعل السالف ذكره".
"وفي حالة مخالفة ذلك يحق لصاحب الصفة العسكرية أن يقاضي المخالف في هذه المؤسسة أو الشرطة المدنية أو القضاء المدني، والقبض عليه عن طريق الشرطة العسكرية"!!، وفق القرار.
أهداف القرار
قرارات السيسي التي تعدت على نظام التعليم في مصر، وأعطت الضباط درجات مدنية مجانية ليست من حقهم، بعدما أسبغ عليهم من قبل امتيازات مالية وقانونية، دفعت المصريين للتساؤل عن مبرراتها.
فهل الهدف غسيل مخ الضباط سياسيًا بدورات سياسية تلقنهم مفاهيم الولاء على غرار الأنظمة الديكتاتورية؟ أم أنها خطوة ضمن توسيع "جمهورية الضباط" التي أشارت لها دراستان لمعهد كارنيجي الدولي في 1 أغسطس 2012، و21 فبراير 2021.
وأثار قرار السيسي، الذي فوض وزير الدفاع في منح الطلاب هذه الدرجات، التي تمنحها عادة وزارة التعليم العالي لطلاب الجامعات، سخرية وتساؤلات حول الهدف منه.
وضمن إسباغ المكاسب الاقتصادية على الضباط لضمان ولائهم سعى السيسي لتعيينهم على رأس شركات ومشروعات حيوية ما أثار غضب أكاديميين تساءلوا عن "مؤهلاتهم" لتولي هذه المناصب، ويعتقد أن قرار منح الدرجات العلمية جاء ردًا عليهم.
وقال نشطاء إن الهدف هو غرس ضباط الجيش في كل الوظائف عبر هذه الدرجات الجامعية ضمن ترسيخ "دولة الضباط"، التي تقوم على ندب وتعيين ضباط في الوظائف المدنية، خاصة أن الجيش يسيطر على قطاعات واسعة من اقتصاد الدولة.
وأوضح الناشط إبراهيم محسن، أن هذا يسهل أيضًا عملهم في السياسة أو السلك الدبلوماسي أو إدارة الشركات والوزارات وغيرها.
ورجح نشطاء احتمال أن يكون المقصود من وراء منح الضباط بكالوريوس العلوم السياسية إعطاءهم "دورة أو فرقة تدريبية" يدرسون فيها مواد ونظريات سياسية بعينها بغرض التوجيه السياسي والأيديولوجي.
وفرض "رؤية سياسية" أو "رسم خط سياسي" وفكري للطلبة العسكريين على غرار دورات الكادر في الأحزاب السياسية، بحيث يتخرجون ضباطًا عسكريين مسيسين موالين ومؤهلين للسلطة.
أي عملية توجيه أيديولوجي وسياسي لطلبة الكلية الحربية على غرار الدول الفاشية وأنظمة حزب البعث في المنطقة، حسبما ذكر الناشط محمد نعيم.
وقال آخرون إن الهدف ربما يكون مكايدة وإغاظة من يعايرون ضباط الجيش بأنهم غير أكفاء لإدارة الدولة، لأنهم يدخلون الكليات العسكرية بمجموع درجات 50% فقط من نتيجتهم في الثانوية العامة.
لذا أعطى السيسي الضباط نفس المؤهل الذي يحصل عليه من يعايرونهم من خريجي ما يسمى "كليات القمة" السياسية والاقتصادية، ممن يدخلون هذه الكليات بنسبة تفوق قد تزيد عن 95%.
ويكشف عسكري سابق، عن سبب آخر لمنح السيسي هذه الدرجات المدنية للضباط، مشيرًا لأن السيسي لم يعد يسمح بمد فترة خدمة الضباط حتى الترقي لرتب أعلى.
ويضيف أن معظم الضباط يحالون إلى التقاعد مبكرًا، لذا ستفيدهم هذه الدرجات العلمية المدنية في تولي وظائف أخرى مدنية كبيرة لاحقًا.
ويوضح أن فترة خدمتهم لا تتجاوز 20 عامًا، يحال الضابط بعدها إلى المعاش وسنه لا يتجاوز 45 عامًا، والآلاف منهم يبحثون عن عمل ولا يجدون عادة سوى وظائف ذات طبيعة أمنية، مثل مدير أمن في أحد الفنادق أو الشركات.
ومن هنا جاء التفكير، وفق الضابط السابق الذي فضل عدم ذكر اسمه، في أن يكون هؤلاء الضباط من حاملي الشهادات العلمية المدنية أيضًا حتى يتمكنوا من إيجاد فرص عمل متنوعة وفي مجالات مختلفة.
تداعيات ومخاطر
وانتقد كثيرون منافسة الجيش للمدنيين في التجارة والسياسة والمناصب المدنية، وما سينتج عن هذا القرار الآن من منافسة في مؤهلاتهم الدراسية العليا بما يحرم مدنيين من فرص ووظائف سيتم ندب الضباط لها.
وقال أستاذ الاقتصاد بأكاديمية السادات الدكتور شريف حسن قاسم، إن خطورة هذا القرار أنه يعطي صلاحية منح درجة البكالوريوس أو الليسانس لوزير الحربية، دون أي سلطة للمجلس الأعلى للجامعات لمراجعة مدى استيفاء جهات منح الشهادات للمتطلبات العلمية والفنية ومدى الالتزام بتطبيق اللوائح من عدمه.
وأشار عبر حسابه على فيسبوك، إلى أن هذا الأمر "قد يسبب إرباكًا شديدًا مجتمعيًا وسياسيًا عند معادلة هذه الشهادات بمثيلتها الممنوحة من قبل الجامعات الخاضعة لسلطة المجلس الأعلى للجامعات".
كما أن هذا "الازدواج عند منح نفس الشهادة من جهتين إحداهما مدنية والأخرى عسكرية يعد تميزا سياديا للحاصلين على الأخيرة".
فضلا عن أن "إقرار واقع جديد لإمكانية منح شهادات جامعية من جهات غير خاضعة لإشراف المجلس الأعلى للجامعات سيؤدي لفوضى عارمة في سوق العمل".
من جانبه، وصف خبير التعليم المصري كمال مغيث القرار بأنه "تخريب متعمد للتعليم الجامعي وبلطجة وعبث" وإلغاء للمعايير والمؤسسية وعصف بتراث عريق للتعليم العالي يعود لقرنين من الزمان".
ويؤكد الضابط المصري السابق، أن تدريس مواد غير عسكرية يضر ويؤثر على دراسة العلوم العسكرية التي من الضروري أن يلم بها طالب الكلية الحربية، كما يضر بمبادئ العسكرية المصرية.
ويوضح أن "تدريس السياسة في الكليات العسكرية يمكن أن يحمل معه أفكارًا سياسية معينة ونظريات وعقائد محددة يتبناها الضباط، ما سيحول الجيش إلى أداة في يد النظام أو حزب سياسي موال للسلطة، بدلا من أن يكون في خدمة الوطن والشعب".
فيما يقول مدير المعهد الدولي للعلوم السياسية والإستراتيجية الدكتور ممدوح المنير، إن السيسي يحاول إزالة أي عوائق لتحقيق عسكرة الدولة عبر إعطاء ضباط الجيش واجهة مدنية تمكنهم من الوصول إلى مساحات كان من المستحيل الوصول إليها.
ويؤكد أن تخريب التعليم بهذه الطريقة جاء لأن السيسي لم يعد قادرًا على منح الامتيازات المالية الكافية للاحتفاظ بولاء ضباط الجيش له، فبدأ في هذه النوعية الشاذة من الامتيازات.