قطب العربي


في الدول التي تشهد مواجهات عنيفة بين أجهزة الدولة من جيش وشرطة .. إلخ وجماعات مسلحة، توصف إن صدقا أو كذبا بالإرهاب يعلو دوما شعار “لا حوار مع الإرهاب”، ويتم نشر هذا الشعار وتسويقه بصورة كثيفة عبر منابر الإعلام والثقافة والفن المختلفة، لكن هل هذا الشعار صحيح على إطلاقه؟ وهل الحكومات التي تطلقه جادة في تنفيذه؟


في البدء ينبغي التنويه إلى الرفض المطلق للإرهاب أياً كان مصدره، أو ديانته، أو أدواته، وإلى الفارق بين الإرهاب والمقاومة المشروعة للاحتلال، وأن ليس كل اتهامات الإرهاب التي ترمي بها بعض السلطات الاستبدادية معارضيها صحيحة.


للإجابة عن السؤال الذي طرحناه، يمكن تتبع سلوك الحكومات التي خاضت معارك مع الجماعات الموصومة بالإرهاب على أرضها، فبينما رفعت علنا “شعار لا حوار مع الإرهاب” إذ بها سرا، وجهرا تتحاور مع قادة تلك الجماعات، وتصل معهم إلى تفاهمات وتسويات، سرعان ما تسوقها لشعوبها عبر المنابر الإعلامية والفنية ذاتها التي استخدمتها من قبل لرفض الحوار.


حوارات العشرية السوداء


التجارب عديدة في العالم (من لندن إلى واشنطن إلى برشلونة الخ)، وفي وطننا العربي أيضا، ولعل حوار نظام مبارك مع الجماعة الإسلامية أحد هذه النماذج، لكن التجربة الأكثر ثراء في هذا الإطار هي الحوار الجزائري الذي أنهى العشرية السوداء التي قتل فيها نحو 150 ألف جزائري.


بدأت أحداث العشرية السوداء بسبب الانقلاب على نتائج الانتخابات النيابية التي أظهرت فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ مطلع العام 1992، مع هزيمة جبهة التحرير التي حكمت الجزائر منفردة منذ الاستقلال عام 1962 وحتى 1992، وقد تدخل الجيش لإلغاء نتائج تلك الانتخابات، وحل الجبهة الإسلامية وإعلان حالة الطوارئ، وإجبار الرئيس الشاذلي بن جديد على الاستقالة.


كانت العمليات المسلحة قد اندلعت في ربوع الجزائر منذ العام 1992، وأوقعت خسائر بالغة في الأفراد والمنشآت، واستخدم الجيش كل قوته الغاشمة لمواجهة الجماعات المسلحة، التي صعدت إلى الجبال بعد أن خسرت مواقعها الحضرية.


حوار الجنرال وزعيم المسلحين


رفع الجيش الجزائري شعار لا حوار مع الإرهاب، ومع ذلك قام قائده اليمين زروال بزيارة لرئيس الجبهة الإسلامية عباسي مدني ونائبه علي بلحاج في سجن البليدة العسكري للتفاهم بشأن وقف العمليات المسلحة، وطلب منهما رسالة تنديد بالإرهاب فرفضا، وحين أصبح زروال رئيسا في العام 1994 شكل لجنة وطنية للحوار برئاسة يوسف الخطيب أحد القادة التاريخيين، وعقدت اللجنة مؤتمرا وطنيا للحوار شاركت فيه بعض القوى، وغابت عنه قوى أخرى، كان حوارا شكليا إلى حد كبير، لكنه فتح الباب لجولات أخرى أكثر جدية لاحقا.


ليس ذلك فحسب بل إن رئيس المخابرات الجزائرية الجنرال إسماعيل العماري ذهب بنفسه إلى الجبال التي تحصن بها مقاتلو الجيش الإسلامي للإنقاذ حيث التقى قائده مدني مزراق، كما التقى لاحقا رئيس الجبهة الإسلامية في الخارج رابح كبير، وأقنعه بالعودة من الخارج، وأصدر الرئيس زروال قانون الرحمة في 25/2/1995 وتضمن تدابير الرحمة والقواعد والشروط التي ستطبق على الأفراد المدانين في “جرائم الإرهاب والتسليح”، الذين سلّموا أنفسهم للسلطات طواعية وأعلنوا توقفهم المؤكد عن ممارسة النشاطات المسلّحة، كان القانون يستهدف تشجيع المسلحين على تسليم أنفسهم وأسلحتهم، والتعاون مع الأجهزة الأمنية في كشف باقي الشبكات المسلحة، ولذلك لم يحقق نجاحا.


حوار روما


في يناير 1995 أيضا كانت جمعية أهلية إيطالية ( سانت إيجيديو) قد استضافت زعماء العديد من الأحزاب الجزائرية في حوار روما بعد أن رفضت هذه الأحزاب مخرجات ندوة “الوفاق الوطني” ، ولم تشارك الحكومة في ذاك الحوار الذي دعا لعودة المسار الانتخابي، والإفراج عن قيادات جبهة الإنقاذ، وعودة الجيش لمهامه الدستورية، وعدم التدخل في السياسة، والتداول على السلطة بواسطة الانتخابات”.


كما التقى رئيس الوزراء السابق علي بن فليس بقادة الجيش الإسلامي للإنقاذ، وخاضت المؤسسة الأمنية جولات تفاوض سرية انتهت إلى إعلان الجيش الإسلامي هدنة من طرف واحد، في أكتوبر 1997، وقد جرى ذلك من دون علم الرئيس زروال، ما دفعه إلى تقديم استقالته قبل عامين من نهاية ولايته.


بين الوئام والمصالحة


إلى جانب اللقاءات المباشرة لقادة سياسيين وعسكريين مع قادة الجبهة الإسلامية وذراعها المسلح الجيش الإسلامي بدأ الرئيس عبد العزيز بوتفليقة منذ وصوله إلى قصر الرئاسة خطوات عملية مثلت نقلة نوعية على طريق المصالحة بدأها بقانون الوئام في يوليو 1999 كبديل لقانون الرحمة (الفاشل)، وقد ساهم هذا القانون -الذي اقره استفتاء شعبي- في تهدئة الأمور نسبيا في الجزائر، ثم كانت الخطوة الأكبر والأكثر فعالية هي مشروع السلم والمصالحة الوطنية الذي صوت عليه الجزائريون بأغلبية كبيرة في العام 2005 وبموجبه تم العفو عن كل من تخلى عن العمل المسلح، وتم إطلاق سراح قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وعلى رأسهم الشيخ عباسي مدني ونائبه علي بلحاج، وعاد الأمن إلى الجزائر، وإن استغل الرئيس بوتفليقة هذا الإنجاز ليبني عليه حقا في البقاء في السلطة لأربع دورات متتالية لم ينهها إلا الحراك الشعبي الذي انطلق في فبراير 2019.


ورغم حل الجبهة الإسلامية للإنقاذ رسميا منذ العام 1992 إلا أن قادة الحركة الذين خرجوا من السجون بعد مشروع السلم والمصالحة يتحركون بحرية في الجزائر، وكانوا يشاركون في لقاءات أحزاب المعارضة التي سبقت الحراك الشعبي، كما شارك بعضهم في الحراك الشعبي نفسه، بينما اختار الشيخ عباسي مدني الهجرة طواعية إلى قطر التي توفي بها، والغريب أن أحدا من قادة الجبهة الباقين لم يتقدم بطلب لتسجيل حزب سياسي بديل للجبهة.


نقلا عن: الجزيرة مباشر