كثيرًا ما نشاهد على شاشات التلفاز، أو عبر القنوات الفضائية، جموع الحجيج، وقد غادرت بلدانها، في هجرة حقيقية إلى الله، وفرار مفروض إلى حرم الله رب العالمين - فتمتلئ قلوبنا شوقًا، وتحلّق أرواحنا طربًا من هذه الهجرات الجماعية نحو الوحدة والألفة والاجتماع.

ولا غرابة في ذلك؛ فالواقع يشهد أنه لا توجد شعيرة من الشعائر، ولا عبادة من العبادات يتجمع فيها الناس مثل هذا التجمع، ولا تجد همة في الروح، ولا عزيمة في النفس، ولا قوة في الجسد تتطلبها عبادة كما تجد ذلك في الحج، وإذا كانت الحياة - من وجهة نظر الدنيويين - تقوم على المادة والجاه وغيرهما، في محاولة لتحقيق الراحة والطمأنينة والسعادة المؤقتة، فإنها من وجهة نظر الإسلام تقوم على العبودية لله، وإفراده بالوحدانية التي ترتقي به روحًا، وتحقق أمنه النفسي وسعادته الأبدية.

ولما كانت شعائر الإسلام جميعًا تورث المؤمنين مثل هذه «العطايا الإلهية»، فإن الحج في مقدمة هذه الشعائر جميعها، إذ إنه رحلة يتجرد فيها المسلم من كل متعلقاته في الدنيا، ويتجه إلى الله في هيئة بسيطة متواضعة كما هو الحال يوم الحساب، وهو (الحج) امتثال لأوامر الله سبحانه في كل أمر من الأمور: سعى وطواف.. رمى وذبح، كما أنه وقوف وخشوع وخضوع، وهو من أفضل العبادات، إذ يروى أن أبا حنيفة كان يراوده تردد في تحديد أفضل العبادات الإسلامية، وعندما حج وذاق حلاوة المناسك قال: أيقنت الآن أن الحج أفضل العبادات.

والحج يأتي في مقدمة الشعائر التي تورث المؤمنين التقوى والورع والزهد، ولعل الوقوف بعرفة، وهو الركن الأساس في الحج يدشن هذه المعاني الرائعة، فقد جاء في الحديث: «الحج عرفة» فمن فاته الوقوف فقد فاته الحج.

وعرفات جمع عرفة، وقيل سُميت بذلك؛ لأن إبراهيم عرّفها بما رآها من النعت والصفة، أو لأنه التقى إسماعيل في هذا المكان بعد مرور سنوات من الفراق، وقيل لأن الله يتعرف إلى الحجاج بالمغفرة والرحمة، وهم يتعرفون إليه بالجلال والكمال، وقيل غير ذلك.

دروس وعبر

وإذا تأملنا في حديثه (صلى الله عليه وسلم) «الحج عرفة» واستحضرنا موقف الناس في هذه البقعة المباركة فإننا نجد فيه المعاني السامية والمثل الرفيعة والقيم السامقة التي جاء بها الدين الحنيف:

أولًا - هو تجسيد لمعنى الأمة الواحدة التي ذكرها الله في كتابه

حيث يجتمع الناس في صعيد واحد، يتجهون إلى رب واحد، ويسألونه ويتضرعون إليه في وقت واحد، ولسان حالهم يردد قول الله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} (الأنبياء: 92)، ويقول أحد الدعاة: «إن هذه أمتكم، أمة الأنبياء، أمة واحدة، تدين بعقيدة واحدة، وتنهج نهجًا واحدًا، وهو الاتجاه إلى الله دون سواه. أمة واحدة في الأرض، ورب واحد في السماء، لا إله غيره، ولا معبود إلا هو.. أمة واحدة وفق سنة واحدة».

وفي هذا التجمع العظيم وفي هذا المؤتمر الموسع يناقش المسلمون قضاياهم وهمومهم، ويتباحثون في شتى أمورهم السياسية والاقتصادية والثقافية والتجارية، ويتحاورون في المشاكل الفكرية والاجتماعية وصولًا إلى الحلول الصحيحة، وإلى وحدة تكفل لهم القوة والاتحاد، فتعود للأمة الإسلامية عزتها ومكانتها وأمجادها وصدارتها في مقدمة الأمم {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (آل عمران: 110).

إنه المكان الذي يجمع علماء السياسة والاجتماع والاقتصاد والشريعة والفلك والطب والهندسة والبرمجيات.. وغيرها من العلوم، فإذا بعقل الأمة «الجمعي» يتكون حينما يجتمع كل أهل فن واختصاص فيقررون للأمة سياستها، ويرسمون لها منهاجها، فلا تزال الدنيا جميعها تهابها أبدًا.

ثانيًا - هو إعلان عن كمال هذا الدين واتساقه، وعن توحيد هذا الدين بين أبنائه جميعًا

فتجد في ذلك المكان الأبيض والأسود والأحمر، وتجد في هذا المكان الشامي والمغربي والأجنبي، وحينئذ نتذكر أبا بكر العربي، وبلالًا الحبشي، وسلمان الفارسي، وصهيبًا الرومي، فهي وحدة تتجسد، ومعان تتأصل، وقيم تتمنهج عبر مراحل التاريخ المختلفة، وهذه هي إحدى روائع هذا الدين الذى ما فرق يومًا بين لون وآخر، أو بين جنس وآخر، وإنما هو الميزان الحق: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات: 13).

إنه الإعلان عن الوطنية الإسلامية الجامعة التي يريدها الإسلام، ويدعو إليها؛ وطنية العقيدة التي تشهد بأن كل بلد فيه مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، وطن عندنا له حرمته وقداسته، وحبه، والإخلاص له، والجهاد في سبيل خيره.

ثالثًا - إعلان عن المساواة التامة الكاملة

فليست هذه المساواة فقط بوقوف الناس في مكان واحد: إنما أيضًا بلباس الناس للباس واحد لا يعرف التفرقة بين الطبقات «المستعارة» ولا بين الألقاب «المجوفة»، فلا تكاد تميز بين أمير ومأمور، وكبير وصغير، ورئيس ومرءوس، ووجيه ومغمور، إذ كل أولئك قد سوّى بينهم المظهر الجديد، فلا اختلاف ولا تمييز: {يا بنى آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا يوارى سوءاتكم وريشًا ولباس التقوى ذلك خير} (الأعراف: 26).

إن هذا اللباس الذي يلبسه الحاج في حجه وسعيه ووقوفه؛ هو تذكير من الله بهذه النقلة الخطيرة من الدار الدنيا إلى الدار الآخرة، إنه المثل يُضرب أمامه، وينفذه بكامل إرادته، فيترك بلده وولده، ويأتي إلى مكان آخر بلباس آخر، وكأن الله يريد أن يقول لذلك الإنسان: إنه لابد من الرجعة إلى الله للحساب.. وكما أننا تجردنا من ملابسنا لنلبس ملابس الإحرام، فلابد - كذلك - من التجرد من كل ما نملك عند الرجعة إلى الله.

رابعًا - التذكير بيوم الحشر

فالوقوف بعرفة يذكر المسلم بهذه الحقيقة التي كثيرًا ما يغفل عنها، ألا وهي يوم الحشر: فقد عقب الله على مناسك الحج بقوله: {واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون} (البقرة: 203)، وكأن الإنسان في هذا الموقف المهيب، وهذا الزحام الشديد أشبه حالًا بموقف الحشر.

وإن الناظر الذي يشاهد هذا المنظر ليتذكر قوله تعالى: {ونُفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون} (يس: 51)، فالكل يترك بلده ووطنه وأهله ملبيًا مجيبًا للنداء العلوى الجميل، ويذهب إلى هناك، تاركًا حياة هي أشبه بحياة الموتى بين القبور، مقبلًا على حياة أخرى، حيث البعث والروح الجديد!! إنها مسارعة ومسابقة إلى الله.. إنه السير نحو ملكوت الله، إنه نداء الفطرة يلبى، وإنها لحياة أخرى تُحيا، فقد امتلأت الجنبات من كل مكان، وتوافد الناس من كل طريق والكل إلى هناك (إلى ربهم ينسلون).

خامسًا - إشعار المسلم بمدى حاجته إلى مغفرة الله

إن حال المسلم حينئذ - وهو أشعث أغبر - ليمثل الحقيقة التي ذكرها النبي (صلى الله عليه وسلم) عندما قال: «رُب أشعث أغبر ذى طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره» رواه مسلم) فهو موطن لإجابة الدعاء، وقد ذكر النبي (صلى الله عليه وسلم) أن الله تعالى ينزل في هذا اليوم إلى السماء الدنيا، فيباهى بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: «انظروا إلى عبادي، جاءوني شُعثًا غُبرًا ضاحين، جاءوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم يُرَ يوم أكثر عتقًا من النار من يوم عرفة» (رواه البزار).

عندما يستشعر الإنسان هذا المعنى العظيم، وقيمة هذا الموقف الرهيب، فإنه حينئذ لا يكاد يفتر من الدعاء والتوحيد والذكر لله سبحانه، كما يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): «أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير..» (أخرجه ابن أبى شيبة) فيتجه الإنسان إلى الله أن يشرح له صدره، وييسر له أمره، يستعيذ بالله من وساوس الصدر وشتات الأمر وفتنة القبر، يستعيذ بالله من شر ما يلج في الليل، وشر ما يلج في النهار، ومن شر ما تهب به الريح.. يسأل الله أن ينقله من ذل المعصية إلى عز الطاعة، وأن يكفيه بحلاله عن حرامه، وأن يغنيه بفضله عمن سواه، ويسأل الله الهدى والتقى والعفاف والغنى.

وما رُئِي الشيطان - كما يذكر النبي (صلى الله عليه وسلم) - في موقف أغيظ، ولا أدحر، ولا أصغر منه في موقف عرفة، وذلك لما يرى من سعة رحمة الله سبحانه ومغفرته لعباده (رواه مالك والبيهقي).

سادسًا - الوقوف بعرفة احتفال بإتمام النعمة على رسول الله

ففي الصحيحين عن عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) «أن رجلًا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين: آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت، اتخذنا ذلك اليوم عيدًا فقال: أي آية؟ قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} (المائدة: 3)، فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذى نزلت فيه، نزلت ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) قائم بعرفة يوم جمعة»، فها هي منازل الوحى، وها هو موقف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خطيبًا في الناس: «.. وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدى أبدًا: كتاب الله وسنتي».

عزيمة وعهد

إن الحاج يردد مرة بعد أخرى: لبيك اللهم لبيك.. لبيك ربي في أمرك، لبيك ربي في نهيك، لبيك ربي في شرعك، لبيك ربي لا شريك لك، فلك الحمد كله، ولك الشكر كله، علانيته وسره.. لا إله غيرك، ولا معبود سواك.. «لبيك اللهم لبيك.. كلمات معاهدة بين الله وعبده، ألا يَخْلُد لحياته على سابق عهدها قبل الحج، بل يجب عليه أن يبدأ العمل وفق أحواله وكفايته طبقًا لما عاهد ربه عليه.

فالعودة من الحج عودة من «مقام العهد» إلى «مقام العمل»، ولا تنتهي مسئوليات الحاج بعد الانتهاء من الحج، بل تزداد وتكبر في حقيقة الأمر. (حقيقة الحج: ص 34).

فالعبادات ليست للتسلية، ولا لإضاعة الوقت، وإنما هي تربية وتوجيه وصياغة جديدة لذلك المخلوق الضعيف، وتنشئة وصبغة جديدة: {ومن نكث فإنما ينكث على نفسه} (الفتح: 10).