مع أول كل شهر تجتمع غالبية الأسر من ذوي الدخول المتوسطة والضعيفة ليروا كيف سيمضي هذا الشهر، وهل سيمر بسلام أم سيضطرون إلى شد الأحزمة وإلى التقليل من النفقات كما يفعلون كل شهر، وربما ينتهي الأمر بصراخ أو بضجر، فالحال لم يتغير منذ سنوات، ووعود الانقلابيين مثل النفخ في الرماد.

تقول سامية السيد إن الميزانية التي تشمل كل دخل الأسرة، لم تعد تكفي حاجتهم الأساسية، وأصبحت مهمة اختيار عناصر الوجبة الرئيسة مشكلة كبيرة، فترددت أمام دفع مبلغ لا يمكنها تجاوزه، وسلع ارتفعت أسعارها بشكل مخيف.

وتوضح أنّ أسعار الخضروات انخفضت خلال الأسبوع الماضي، مع ارتفاع حرارة الجو، التي تجبر البائعين على خفض السعر، ليتخلصوا من المخزون اليومي، مع ذلك اختارت الملوخية، ليس لأنها أرخص من البامية فحسب، بل لأنها يمكن أن تطبخها مع قطعة صغيرة من اللحم، وكيلو من الأرز وطبق من سلطة الخضروات. وأضافت: "هذه الوجبة ستكلفني 100 جنيه، بزيادة 40 جنيهًا عن الميزانية المقدرة للغداء فقط، مع ذلك تظل أكلة البامية أعلى من تكلفة وجبة الملوخية بكثير".

وجبات الفقراء

وجبة سامية التي تنتمي للشريحة المتوسطة للدخل، التي تضم نحو 60% من السكان، كانت لوقت قريب، الوجبة الشعبية للفقراء، إذ يعيش 30%، من أصل 103 ملايين نسمة تحت خط الفقر، و4.5%، في فقر مدقع، وفقًا لتقارير رسمية، مع ذلك تعد الآن وجبة فاخرة، من الصعب توفيرها في ظل أوضاع دفعت الأسر المتوسطة، إلى أن تناضل يوميًا من أجل تحمل أعباء الحياة الأساسية، مثل الغذاء والسكن والملابس.

أصبح العلاج من وسائل الرفاهية والإنفاق على التعليم من العلامات الفارقة، التي تحدد المستوى الاجتماعي للأسر، في وقت اختفت فيه مجانية التعليم، ويواصل الجميع الدراسة عبر الدروس الخصوصية، ويدفع البعض نحو التعليم الخاص. وبات الغذاء يمثل أكبر حصة من نفقات الأسر المعيشية، مع ارتفاع أسعار مكونات الوجبات بصورة شبه يومية. فالغلاء يتزايد بمعدلات قياسية للشهر الرابع على التوالي.

سجل الجهاز المركزي للمحاسبات ارتفاعا في أسعار السلع والخدمات، بنحو 13.5% لشهر مايو الماضي، بالنسبة لنفس الشهر من العام الماضي وبزيادة 9 % عن إبريل 2022. ارتفعت الزيوت والدهون 45.9%، والخبز والحبوب 41.7%، والخضروات، 33.5% والألبان والجبن والبيض، 24.5%. كما ارتفعت الملابس والأحذية 7.9%، والسكن 8.5%، والرحلات والخدمات الثقافية 54.1%.

تبحث الأسر عبر وسائط التواصل الاجتماعي، عن التخفيضات التي تقدمها مراكز تسوق حديثة، تحصل على البضائع من المنتج للمستهلك مباشرة، واعتادت بعض المحلات ربط تخفيضاتها، مع صرف الرواتب شهريًا. يتابع بعضهم بقلق، استمرار حالة الحرب الروسية في أوكرانيا التي تحملها الحكومة المصرية توابع موجات الغلاء التي تشهدها البلاد، فلاحظوا انخفاضًا ملحوظًا في أسعار الزيوت والسكر والألبان عالميًا، وغلاءها محليًا.

أكد مؤشر منظمة الأغذية والزراعة الدولية "الفاو" الصادر في 3 يونيو الجاري، تراجع أسعار الزيوت والألبان، بنسبة 5.3%، وانخفاض السكر والقمح بمعدلات طفيفة، عن شهر إبريل لماضي، بينما تأتي الأنباء بما لا تشتهي الأنفس، فقد قفزت الأسعار في الفترة نفسها، للخبز والحبوب، والزيوت وغيره.

عجز الريف عن توفير احتياجاته

ظاهرة غلاء الأسعار لم تعد تفرق بين المدن والقري، في بلد ما زال 65% من سكانه يعيشون في المناطق الريفية، وبعض مدنه لا تحسب على الحضر بالمعايير الدولية.

ولم يكن غريبًا أن تنتشر المراكز التجارية على طرقات مصر - إسكندرية الزراعي، والمنصورة، والعاشر من رمضان، لتصبح أسواقًا تجارية، يقبل عليها أهل القرى، والمناطق الصناعية، الباحثين عن العروض الرخيصة للأطعمة والمشروبات، بعدما أصبح الريف غير قادر على توفير احتياجات سكانه، لارتفاع تكاليف الزراعة وتربية الطيور والحيوانات وندرة الأرض الزراعية.

تستورد مصر نحو 98% من حاجاتها من الزيوت، و65% من الأغذية، واللحوم والأسماك، في وقت ارتفعت فيه الأسعار لمستويات غير مسبوقة منذ عام 1961، كما ذكرت تقارير "الفاو" الأسبوع الماضي.

أصبح المشهد ضبابيًا، ليس في الداخل فحسب، بل أصاب العالم بأسره، منذ عام 2020، مع تداعيات وباء كورونا، وزاد حدة بعد اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا.

تأثرت مصر بشدة باضطرابات أسعار الغذاء والبترول، ومع تراجع قيمة الجنيه ارتفعت أسعار العقارات والمأكولات والملابس والرحلات، بنسب تتراوح ما بين 30% إلى 54%.

وأدت قرارات للبنك المركزي، التي تستهدف الحفاظ على الدولار، بوقف الواردات من الخارج وقصرها على السلع الاستراتيجية للدولة إلى توقف آلاف المصانع لعدم قدرتها على توفير مدخلات الإنتاج، والعملة الصعبة، وعدم قدرة الشركات على العمل، في ظل تضخم متواصل بلا سقف.

ويلقي خبراء باللوم على الحكومة في تبديد ميزانية الدولة مع 145.5 مليار دولار قروضًا على مشروعات قومية، غير ضرورية، لا تحقق الأمن الغذائي والاجتماعي، الذي يحتاجه جميع المصريين.

التضخم يلتهم الدخول

يتوقع خبراء مال أن يتراوح التضخم ما بين 15% إلى 17%، نهاية العام الجاري، بينما يأمل صندوق النقد الدولي أن يتوقف عند 7.5%، عام 2022، ليرتفع إلى 11% عام 2023، وفي كلّ حال، هي نسب تلتهم العلاوات الاجتماعية التي قررتها الدولة للموظفين، من أمثال سامية السيد وزوجها، التي طبقتها حكومة الانقلاب منذ إبريل الماضي.

صرفت وزارة المالية، بدل نقدي على الراتب الأساسي لجميع الموظفين يتراوح ما بين 8-15%، من الراتب، يبدأ من 100 إلى 400 جنيه. ورفعت الحكومة المعاشات التقاعدية، بنسبة 13%.

وأعلن المدير التنفيذي للبنك الدولي، ميرزا حسن، خلال اجتماعه مع أعضاء اللجنة الاقتصادية بمجلس الوزراء في القاهرة الأسبوع الماضي، أن البنك سيعمل على مساعدة مصر على بدء برنامج "فرصة" في أشد 8 محافظات فقرًا، لتمكين الأسر شديدة العوز من الحياة، ودمجهم في سوق العمل، مع دعم برامج التنمية بمصر، للسنوات الخمس القادمة.

انتهت الاجتماعات دون تحديد لمبالغ مالية، ستقدمها مؤسسات التمويل الدولية، التي ساعدت مصر بـ 22 مليار دولار، على مدار 5 سنوات، لدعم اقتصاد يعاني من نقص حاد في النقد الأجنبي، وعجز دائم، بين الصادرات والواردات، سيرتفع إلى 45 مليار دولار، بعد إضافة 10 مليارات الشهر الحالي لتدبير فرق الزيادة بأسعار القمح والطاقة خلال العام الحالي.

تقليص الدعم رغم غلاء

تكافح الأسر للتعايش مع الغلاء المتصاعد، بينما ألغت وزارة التموين بطاقات الدعم عن مئات الآلاف من المصريين خلال الأيام الماضية. ادعت الوزارة أنها تسعى إلى تخفيف فاتورة الدعم الحكومي، عن شرائح اجتماعية قادرة على تحمل النفقات. تأتي تصرفات الحكومة مواكبة لتعليمات صندوق النقد، حيث تسعى إلى الحصول إلى قرض جديد منه بقيمة 3.5 مليارات دولار، لتوظيفه في مواجهة ارتفاع تكاليف استيراد القمح والطاقة.

وأكد مستشار وزير التموين عمر مدكور في تصريحات صحافية، أن حذف البطاقات، سيطبق على نحو 500 ألف من المصريين المسافرين للخارج، لأكثر من 3 أشهر متصلة، أو من يتجاوز راتبه 9600 جنيه (500 دولار)، ومن يملكون سيارة منذ عام 2015، أو يدفع أكثر من 20 ألف جنيه شهريًا لتعليم أولادهم بمدارس خاصة. هذه التصفية في قوائم مستحقي الدعم، الثالثة من نوعها على مدار 5 سنوات، بدأت بحذف ملاك السيارات ومرتفعي الرواتب، وتبعها تقليص لكميات السلع والخبز.

جاء القرار المباغت ليضيف أعباء على ملايين الأسر، التي لم يعد لديها خيار لمواجهة أعباء الحياة، إلا بطلب السفر، والعمل بأجور زهيدة في الخارج، وتعليم أبناءها بمدارس خاصة، مع تدهور التعليم العام، بينما تعمل الحكومة على رفع أسعار كافة الخدمات والسلع التي تنتجها، منذ فترة طويلة.

قررت الحكومة رفع أسعار مياه الشرب، بنسبة تتراوح ما بين 36% إلى 46%، اعتبارًا من يوليو المقبل. وتعهدت الحكومة بعدم رفع أسعار الكهرباء، للعام الثالث، في وقت تؤكد فيه تقارير وزارة الكهرباء، أن الكهرباء لا تحصل على أي دعم من الموازنة العامة منذ سنوات، وحسب تصريحات سابقة لوزير الكهرباء الدكتور محمد شاكر، ونظام الشرائح المطبق حاليًا، فإنّ كبار المستهلكين يدفعون الفرق بين خسائر البيع للمستهلكين من الشرائح الدنيا والتكلفة الفعلية للإنتاج بشركات الكهرباء.

كما تخطط الحكومة لرفع أسعار الوقود، بعد رفعها سعر الغاز، مع استهلاك الشهر الجاري، بما دفع مواطنين إلى تبادل منشورات، عبر صفحات التواصل الاجتماعي يطالبون فيه رئيس الدولة، بأن يشاركهم في حل مشكلتهم في إدارة ميزانية الأسر.

كتبت سيدة مصرية وصفًا تفصيليًا بنفقاتها اليومية، في استغاثتها لقائد الانقلاب، تبين فيها أنّها زوجة تدير أسرة بسيطة لموظف ولديها طفلان. تنفق الأسرة 200 جنيه، على فاتورة الكهرباء، و100 جنيه للغاز و100 للمياه، وتنفق 70 جنيهًا تدبر بها 3 وجبات يوميًا، ويحصل كلّ فرد على 5 جنيهات فقط كمصروف لليد، منهم رب الأسرة، و15 جنيهًا للمواصلات، بما يعادل 4800 جنيه، لا تقدر الأسرة على توفيرها شهريًا.

تلفت السيدة أنّه إذا توافر المبلغ، للصرف على أساسيات الحياة، فلا بديل آخر للصرف على التعليم، أو الملابس أو السكن أو "لا سمح الله للتنزه ودخول السينما". تنضم السيدة في طلبها إلى صوت ملايين المصريين، بأن ترحم السلطة الغلابة "لأننا اتخنقنا".